وسط تحذيرات من "سابقة خطِرة".. لماذا تُعاقب أمريكا مقررة أممية فضحت دعم الشركات لحرب غزة؟
وسط تحذيرات من "سابقة خطِرة".. لماذا تُعاقب أمريكا مقررة أممية فضحت دعم الشركات لحرب غزة؟
في خطوة غير مسبوقة، أثار إعلان الولايات المتحدة فرض عقوبات على مسؤولة أممية رفيعة تُعنى بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة موجة واسعة من الجدل والانتقادات في الأوساط الحقوقية والدولية، وسط تحذيرات من تداعيات القرار على استقلالية منظومة الأمم المتحدة، ومستقبل التحقيقات في جرائم الحرب، خصوصاً تلك المرتبطة بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
وأعلن وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، الأربعاء، فرض عقوبات على فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك على خلفية تقرير أممي صدر أخيرًا واتهم أكثر من 60 شركة، بعضها أمريكي، بدعم المستوطنات في الضفة الغربية والمجهود العسكري الإسرائيلي في قطاع غزة.
وفي منشور عبر منصة "إكس"، اتهم روبيو ألبانيز بـ"التحيز السافر" و"التحريض على إصدار مذكرات توقيف ضد مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين"، معتبراً أن نشاطها يشكل "خرقًا لسيادة الولايات المتحدة وإسرائيل"، كاشفاً أن العقوبات تأتي بموجب أمر تنفيذي صادر عن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في فبراير الماضي.
ترحيب إسرائيلي
وجاء الإعلان عن العقوبات، في حين كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يزور واشنطن، في تزامن أثار تساؤلات حول خلفيات القرار، وقد لاقى القرار ترحيبًا واسعًا من المسؤولين الإسرائيليين، إذ وصفه وزير الخارجية جدعون ساعر بأنه "رسالة واضحة"، في حين أشاد السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة داني دانون بـ"الخطوة الضرورية".
وتزامن القرار مع مذكرات توقيف أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية في نوفمبر 2024 بحق كل من نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، بتهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال العمليات العسكرية في غزة، إلى جانب قيادات من حركة "حماس".
من جانبها، أعربت فرانشيسكا ألبانيز عن "صدمتها" من القرار الأمريكي، محذرة من أن "السابقة" قد تُرهب باقي المدافعين عن حقوق الإنسان حول العالم. وقالت في تصريحات خاصة لوكالة رويترز من البوسنة، حيث تشارك في إحياء الذكرى الثلاثين لمذبحة سربرنيتشا: "لم تعد هناك خطوط حمراء... هذا القرار قد يقيد تحركاتي ويخيف من يتعاونون معي، لكنه لن يوقف عملي".
وأكد مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أن هذه هي أول مرة يتم فيها فرض عقوبات أمريكية على مقرّر خاص، داعيًا إلى التراجع الفوري عن القرار، كما عبر الاتحاد الأوروبي عن "أسفه الشديد" للعقوبات، كما قال المتحدث باسم المفوضية أنور العنوني: "ندعم بقوة نظام الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ونرفض استهداف مقرريه".
تقرير الإبادة الجماعية
تعد ألبانيز من أبرز المنتقدين للسياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، وقد دعت في تقريرها الأخير إلى فرض حظر سلاح على إسرائيل، ووقف التعاون التجاري والمالي معها، متهمة الجيش الإسرائيلي بشن "حملة إبادة جماعية" في غزة.
وبحسب مراقبين، فإن القرار الأمريكي يأتي في سياق أوسع من الضغوط على المحكمة الجنائية الدولية، والتي سبق أن طالت المدعي العام كريم خان، وأربعة من قضاة المحكمة، بموجب أوامر من إدارة ترامب.
وفي الداخل الأمريكي، انقسمت الآراء حول القرار، فبينما عدّه مسؤولون جمهوريون متماشياً مع "سياسات ترامب الداعمة لإسرائيل"، حذر خبراء في الشأن الحقوقي من أن هذه العقوبة قد تستخدم أداةً "لترهيب" المسؤولين الأمميين، وإجهاض أي تحقيقات مستقبلية تمس إسرائيل أو الولايات المتحدة.
وقال أحد أعضاء الحزب الحاكم في تصريحات لـ"جسور بوست" إن "القرار يعكس التوجه السياسي للرئيس ترامب، لكنه في الوقت ذاته يحمل أبعادًا استراتيجية تتعلق بالحرب الجارية في غزة، ويجب فهمه في هذا الإطار المركب".
وتفتح العقوبات الأمريكية على فرانشيسكا ألبانيز فصلاً جديداً في العلاقات المتوترة بين واشنطن والمنظمات الأممية، وتطرح أسئلة ملحّة حول مدى استقلالية العدالة الدولية، ومدى استعداد القوى الكبرى لاحترام التزاماتها القانونية في زمن الحروب والصراعات.
وبينما تحذر الأمم المتحدة من تأثير القرار في العمل الحقوقي العالمي، يبقى مستقبل التحقيق في الانتهاكات المرتكبة في غزة رهيناً لصراعات السياسة أكثر من ميزان العدالة.
سابقة ترهيبية للمعارضين
وتواصلت ردود الأفعال الغاضبة بعد قرار وزارة الخارجية الأمريكية فرض عقوبات على فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة بالأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك على خلفية تقرير أممي اتهم شركات أمريكية وإسرائيلية بدعم الاستيطان والعمليات العسكرية في غزة.
ورأى حقوقيون وأكاديميون دوليون أن القرار يمثل تصعيدًا خطيرًا ضد منظومة الأمم المتحدة ومساسًا باستقلالية عملها، محذرين من "سابقة ترهيبية" تهدد المساءلة الدولية وحرية التعبير في سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
بدوره قال الحقوقي الدولي عبد المجيد مراري في تصريح لـ"جسور بوست"، إن القرار الأمريكي يُعد "اعتداءً صارخاً" على استقلال ونزاهة آليات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وخرقًا واضحًا لاتفاقية امتيازات وحصانات الأمم المتحدة لعام 1946، التي تضمن الحماية القانونية لموظفي المنظمة الدولية أثناء تأدية مهامهم.
وأكد مراري أن العقوبات المفروضة على ألبانيز تمثل أول سابقة من نوعها بحق مسؤولة أممية بسبب عملها المهني، وهو ما يهدد البيئة القانونية الدولية التي تستند إليها عمليات الرصد والمساءلة في قضايا حقوق الإنسان.
وبقوله: "هذا القرار يعد محاولة لتخويف المقررين الخاصين التابعين للأمم المتحدة، ومنعهم من أداء دورهم بحرية واستقلالية"، مضيفًا أن "الخطوة الأمريكية تُضعف ثقة الضحايا والمجتمع الدولي بآليات العدالة الدولية، وتتناقض بشكل مباشر مع الالتزامات التي تعهدت بها واشنطن بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي تُعد الولايات المتحدة طرفاً فيه".
ودعا الحقوقي الدولي إلى التراجع الفوري عن القرار، واعتبره انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني ومبادئ الأمم المتحدة، مطالبًا المجتمع الدولي بالتحرك لضمان استقلالية نظام الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
استمرار في دعم إسرائيل
من جانبه، وصف الدكتور أمجد شهاب، أستاذ القانون الدولي بجامعة القدس، القرار الأمريكي بأنه يمثل تصعيدًا غير مسبوق ضد خبراء الأمم المتحدة، مشيرًا إلى أنه يفتح الباب أمام ممارسات ترهيب قد تُمارس بحق من يوجهون انتقادات لإسرائيل.
وأضاف شهاب، في تصريح لـ"جسور بوست": "العقوبات تحمل أبعادًا سياسية خطِرة، تشير إلى أن الولايات المتحدة تسعى لإسكات أي صوت ينتقد الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة، وهو ما يشكل انتكاسة للمنظومة الدولية لحقوق الإنسان".
وحذر شهاب من أن مثل هذه السياسات قد تؤدي إلى انهيار ثقة المجتمع الدولي في حيادية النظام الأممي، وتهدد مستقبل التحقيقات في الجرائم المرتكبة بحق المدنيين، خاصة في ظل استمرار الحرب على غزة.
في المقابل، اعتبر الدكتور نبيل ميخائيل، أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن وعضو الحزب الجمهوري الأمريكي، أن العقوبات الأمريكية على ألبانيز تأتي في سياق واضح لاستمرار سياسة الرئيس دونالد ترامب المؤيدة لإسرائيل.
وقال ميخائيل، في تصريح لـ"جسور بوست"، إن القرار لا يُعد مفاجئًا في السياق الأمريكي، خاصة أن "القوانين الفيدرالية الأمريكية تمنع الشركات المحلية من مقاطعة إسرائيل"، مشيرًا إلى أن "أي شركة أمريكية تحاول اتخاذ موقف ضد إسرائيل قد تواجه عواقب قانونية داخلية".
ورغم ذلك، رأى ميخائيل أن للرئيس ترامب دورًا مهمًا حاليًا في دفع جهود وقف إطلاق النار في غزة، قائلا: "ترامب يظل فاعلًا مؤثرًا في الملف الفلسطيني الإسرائيلي، وعلينا الانتباه إلى التحركات السياسية التي قد يقودها خلال الأيام المقبلة".
وكانت الأمم المتحدة قد أعلنت أن فرانشيسكا ألبانيز هي أول مقررة أممية تتعرض لعقوبات من دولة عضو، وهو ما وصفه المكتب الأممي لحقوق الإنسان بأنه "سابقة مقلقة" تمس استقلالية النظام الدولي لحماية الحقوق والحريات.
من جانبه، عبر الاتحاد الأوروبي عن "أسفه الشديد" للعقوبات الأمريكية، وأكد في بيان رسمي أن الكتلة الأوروبية "تدعم نظام حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وتدعو إلى احترام استقلالية مقرريه".
وتبرز العقوبات الأمريكية على فرانشيسكا ألبانيز كأحد أكثر التطورات إثارة للجدل في سياق الحرب المستمرة على غزة، وتفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية بشأن حدود النفوذ السياسي على الآليات الدولية للمساءلة، ومستقبل حيادية المنظمات الأممية في ظل الضغوط السياسية المتصاعدة.
وبينما يرى مراقبون أن القرار يندرج ضمن مساعي واشنطن لحماية حليفتها إسرائيل من المحاسبة، يحذر آخرون من أن استهداف خبراء الأمم المتحدة قد يُدخل منظومة العدالة الدولية في نفق مظلم، يُقيد أصوات الضحايا، ويضرب أسس الشفافية والمساءلة في مقتل.