كردفان تنزف مجدداً.. العنف العرقي يفتك بالمدنيين وينذر بكارثة إنسانية
كردفان تنزف مجدداً.. العنف العرقي يفتك بالمدنيين وينذر بكارثة إنسانية
من جديد، عاد شبح الموت ليخيّم على إقليم كردفان السوداني الذي يعيش واحدة من أسوأ موجات العنف العرقي في تاريخه الحديث، ففي الأسابيع الماضية، شهدت ولايتا غرب وجنوب كردفان عمليات قتل جماعي مروعة استهدفت قرى بأكملها، وأسفرت عن مقتل مئات المدنيين معظمهم من النساء والأطفال، ونزوح الآلاف في ظروف إنسانية قاسية.
وفق تقارير حديثة صادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، قُتل ما لا يقل عن 420 مدنيًا خلال أقل من شهر نتيجة اشتباكات وصفت بأنها ذات طابع عرقي واضح، بينما اضطر أكثر من 75 ألف شخص إلى النزوح داخل ولايتي غرب وجنوب كردفان.
أظهرت صور الأقمار الصناعية التي حصلت عليها منظمة هيومن رايتس ووتش دمارًا واسع النطاق طال قرىً ومزارع ومراكز صحية، وقالت المنظمة في بيان لها، هناك نمط متكرر من الهجمات الانتقامية على أساس الهوية العرقية، وسط إفلات كامل من العقاب.
ورصدت "العفو الدولية" شهادات لمدنيين في كردفان تحدثوا عن اقتحام مجموعات مسلحة قراهم ليلًا، وإطلاق النار العشوائي، وحرق المنازل والمتاجر والمساجد، إلى جانب استخدام العنف الجنسي كسلاح لترهيب السكان ودفعهم للنزوح.
خليط من العرق والسياسة والموارد
لكردفان تاريخ طويل ومعقد من النزاعات المسلحة، يعود إلى بدايات الحرب الأهلية السودانية الأولى (1955-1972)، وتفاقم مع الحرب الثانية (1983-2005)، وعقب استقلال جنوب السودان عام 2011 لم تهدأ الأوضاع في كردفان التي ظلت ساحة صراع بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان- قطاع الشمال.
العنف الأخير له جذور عميقة في التنافس على الموارد الطبيعية الشحيحة، خاصة الأراضي الزراعية ومناطق الرعي، في سياق أزمة اقتصادية خانقة وتغير مناخي زاد من التصحر وشح المياه.
لكن اللافت أن هذا العنف أخذ طابعًا عرقيًا حادًا، حيث تستهدف مجموعات مسلحة مجموعات إثنية بعينها، وسط تراخي الأجهزة الأمنية، أو حتى تورط بعض عناصرها بحسب إفادات الشهود.
أرقام تصدم الضمير الإنساني
تقدّر مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) أن النزاع في كردفان دفع أكثر من 600 ألف شخص إلى النزوح منذ اندلاع موجة العنف الأوسع في السودان في أبريل 2023.
وتشير أحدث بيانات المنظمة الدولية للهجرة (IOM) إلى أن نحو 38% من النازحين في كردفان هم أطفال دون سن الخامسة عشرة، يعانون من سوء تغذية حاد ومخاطر الأمراض المعدية.
تقرير صدر عن برنامج الغذاء العالمي (WFP) في يونيو 2025 حذر من أن 60% من سكان ولايتي غرب وجنوب كردفان يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وسط نقص حاد في الإمدادات الغذائية نتيجة انقطاع الطرق واستمرار الاشتباكات.
تبعات تفوق حدود الجغرافيا
لا يقتصر تأثير العنف العرقي في كردفان على عدد القتلى والجرحى فقط؛ بل يمتد ليُغذي دوامة الكراهية والانتقام، ويفكك النسيج الاجتماعي الذي ظل لعقود ركيزة أساسية للتعايش بين المزارعين والرعاة من مختلف الإثنيات.
تقول الباحثة السودانية في قضايا النزاع، سلمى عبد الرحمن في تصريحات متصلة بالأزمة: "حين يتحول الصراع إلى استهداف مباشر على الهوية، يصبح من الصعب إعادة بناء الثقة حتى بعد توقف القتال".
ويضيف تقرير حديث لمركز الأزمات الدولية (ICG): "العنف العرقي في كردفان يعيد إلى الأذهان مآسي دارفور في بدايات الألفية، بما في ذلك الهجمات المنظمة، وحرق القرى، ونزوح جماعي قد لا يكون مؤقتًا بل يتحول إلى تهجير دائم".
الاستجابة الإنسانية والعجز السياسي
استجابت منظمات الإغاثة الدولية بشكل عاجل لتلبية الاحتياجات الطارئة، لكن حجم الكارثة يتجاوز الإمكانيات المتاحة، ففي تقرير للأمم المتحدة، أُعلن أن خطة الاستجابة الإنسانية للسودان لعام 2025 تواجه فجوة تمويلية تتجاوز 1.2 مليار دولار، ما يهدد بتقليص برامج الغذاء والمياه والصحة.
بينما على المستوى السياسي، يعاني السودان من غياب حكومة مركزية موحدة منذ اندلاع الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، ما يجعل فرص التدخل لحماية المدنيين شبه معدومة.
ورغم بشاعة النتائج، يرى محللون أن بعض الأطراف المسلحة قد تستخدم العنف العرقي كأداة لتحقيق مكاسب تفاوضية، أو لبسط نفوذها على الأرض بتهجير مجموعات سكانية وإعادة رسم التركيبة الديموغرافية.
لكن تقارير المنظمات الحقوقية والأممية تُجمع على أن هذا النهج قصير النظر، ويقود إلى أضرار طويلة الأمد منها تفتيت المجتمع، تعميق الانقسامات، وتراجع فرص المصالحة الشاملة.
تقرير صادر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لإفريقيا في مايو 2025 لفت إلى أن النزاعات العرقية في السودان تسببت بخسائر اقتصادية سنوية تتجاوز 2.5 مليار دولار، إلى جانب كلفتها الإنسانية الضخمة.
من دارفور إلى كردفان
يستحضر كثيرون مأساة دارفور التي اندلعت في 2003 وأدت إلى مقتل نحو 300 ألف شخص ونزوح ما يزيد على 2.7 مليون، بحسب الأمم المتحدة. اليوم يتكرر السيناريو ذاته في كردفان، حيث تُستخدم الهويات العرقية كسلاح سياسي، وسط غياب المحاسبة.
في 2005، وُقّعت اتفاقية السلام الشامل التي أنهت أطول حرب أهلية في إفريقيا، لكنها تركت جذورًا للنزاعات المحلية، مثل النزاع في كردفان والنيل الأزرق، دون حلول جذرية.
وتقول حليمة (45 عامًا)، نازحة من قرية قرب الدبيبات في جنوب كردفان: "جاؤوا ليلًا، أطلقوا النار على كل من وجدوه، لم يميزوا بين طفل وامرأة، رأيت جاري يُقتل أمام عيني".
أما موسى (30 عامًا) فقد فقد شقيقه وزوجته في هجوم مماثل: "هربت مع أطفالي إلى المدرسة التي تحولت لمأوى، لا طعام ولا دواء، فقط الخوف".
كارثة إنسانية بلا أفق حلّ
تؤكد معظم التقارير الأممية والحقوقية أن استمرار الإفلات من العقاب والغياب الكامل للدولة يغذي دوامة العنف العرقي، ومع عجز الجهود الإنسانية عن مواكبة حجم النزوح والاحتياجات، يبدو الأفق قاتمًا.
تبقى مأساة كردفان جرس إنذار للعالم بأن تجاهل جذور النزاعات، والتهاون أمام خطاب الكراهية، يمكن أن يُحوّل نزاعات محلية إلى كوارث إنسانية يتردد صداها لعقود.
اندلعت الحرب في السودان في أبريل 2023 نتيجة صراع دموي على السلطة بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو حميدتي، بعد تعثر عملية الدمج العسكري وانهيار الاتفاقات الانتقالية التي أعقبت الإطاحة بعمر البشير، وامتد النزاع سريعًا من الخرطوم إلى دارفور وكردفان والنيل الأزرق، متحولًا إلى أعمال قتل جماعي على أسس عرقية وتدمير واسع للبنية التحتية.
وخلّفت الحرب أزمة إنسانية غير مسبوقة، حيث نزح أكثر من 13 مليون شخص داخليًا ولجأ مئات الآلاف لدول الجوار، بينما يحتاج أكثر من 25 مليون شخص –أي نصف السكان تقريبًا– إلى مساعدات عاجلة، وسط تزايد معدلات الجوع والأمراض وانهيار النظامين الصحي والاقتصادي، ولم تقتصر التداعيات على السودان، بل امتدت لتزيد من أعباء الدول المجاورة وتفاقم التوترات في منطقة القرن الإفريقي.