عنف لا يهدأ.. انتشار الجماعات المسلحة في سوريا يثير المخاوف بشأن حقوق الإنسان
عنف لا يهدأ.. انتشار الجماعات المسلحة في سوريا يثير المخاوف بشأن حقوق الإنسان
في بلد أنهكته الحرب منذ أكثر من عقد، لا يزال السلاح يلقي بظلاله الثقيلة على مستقبل سوريا، ومع تصاعد العنف مجددًا في الجنوب، ورفض قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تسليم أسلحتها رغم ضغوط دمشق، تدخل الأزمة السورية طورًا جديدًا محفوفًا بالمخاطر الإنسانية والانتهاكات الحقوقية.
ومنذ اندلاع النزاع السوري عام 2011، كان انتشار السلاح بأيدي جماعات مسلحة غير رسمية واحدًا من أخطر تداعيات الحرب، فقد أسست قوى محلية وإقليمية تشكيلات عسكرية متعددة الولاءات، وخلقت بذلك واقعًا أمنيًا هشًا يتصدره العنف المسلح.
وتعد قسد، التي تشكلت في 2015 بدعم من التحالف الدولي لمحاربة داعش، واحدة من أكبر هذه القوى، فهي تسيطر اليوم على نحو ثلث مساحة سوريا، بما يشمل كامل محافظة الحسكة وأجزاء من الرقة ودير الزور وحلب، ويؤكد مسؤولوها أن التهديد المستمر من خلايا داعش يجعل من المستحيل التخلي عن السلاح.
تصريحات المتحدث الرسمي باسم قسد، أبجر داود، للشرق الأوسط، تكشف عن جوهر الأزمة: "في ظل التوترات المستمرة وتهديدات داعش، لا يمكننا تسليم أسلحتنا"، وهنا تبرز معضلة أمنية وإنسانية: استمرار الجماعات المسلحة يعني استمرار الانتهاكات المحتملة بحق المدنيين، بينما التخلي المفاجئ عن السلاح يفتح الباب أمام هجمات التنظيمات الإرهابية.
معضلة الدمج في الجيش
طرحت الحكومة السورية، بدعم من حلفائها، خطة لدمج قسد في هياكل وزارة الدفاع خلال فترة لا تتجاوز 30 يومًا، لكن قسد ردت بالرفض، مطالبةً باتفاق دستوري يعترف بخصوصيتها كقوة محلية لها كتلة عسكرية موحدة ضمن الجيش السوري.
قيادة قسد، ممثلة بمظلوم عبدي، تلمح إلى استعداد سياسي للاندماج، لكنها ترى أن التخلي عن السلاح الآن لا يخدم حماية شمال شرقي سوريا، وهو موقف تدعمه جزئيًا واشنطن، التي تُبقي تواصلًا مباشرًا مع قادة قسد، وفق ما كشفه الاجتماع الأخير بين عبدي والمبعوث الأميركي والسفير الفرنسي.
وتسيطر قسد على نحو 25–30% من مساحة سوريا، وأكثر من 2.6 مليون شخص يقيمون في مناطق سيطرتها، بينهم نحو مليون نازح، وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، سجلت هذه المناطق أكثر من 600 حادثة قتل أو اعتقال تعسفي خلال عام 2024 فقط.
تقرير للأمم المتحدة (مارس 2025) أكد أن استمرار النزاعات المسلحة أدى إلى مقتل نحو 3500 مدني في سوريا خلال العام الماضي، نصفهم تقريبًا في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة.
انتهاكات حقوق الإنسان
يؤكد تقرير حديث لـ"هيومن رايتس ووتش" أن انتشار السلاح خارج سيطرة الدولة في سوريا "فاقم من حالات الاعتقال التعسفي والتجنيد القسري للأطفال والتمييز بحق الأقليات"، كما رصدت المنظمة حالات تعذيب وانتهاكات ضد مدنيين في مناطق سيطرة قسد، رغم أن هذه القوات تقول إنها تطبق معايير حقوق الإنسان.
وفي الجنوب، أدت عودة نشاط الجماعات المسلحة بعد توقف نسبي منذ اتفاق التسوية في 2018، إلى موجة اغتيالات وخطف وقتل جماعي.
وأشار تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا إلى تصاعد العنف بشكل مقلق في درعا والسويداء في النصف الأول من 2025.
أثر مباشر على المدنيين
الأزمة ليست فقط أرقامًا وتقارير، إنها حياة ملايين، فقد دفع استمرار العنف المسلح نحو 150 ألف شخص للنزوح مجددًا في شمال شرق سوريا منذ بداية العام، بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، يعيش كثير منهم في مخيمات تفتقر لأدنى مقومات الأمان والخدمات.
وفي شهادات وثقها المرصد السوري، عبّر مدنيون عن خوف دائم من التفجيرات والهجمات الانتقامية بين القوات النظامية وقسد أو هجمات داعش، تقول أم محمد، وهي نازحة من ريف دير الزور:" لا نعرف من يخيفنا أكثر.. داعش أم حواجز قسد أم طيران النظام".
وتأسست قسد من اندماج عدة فصائل، أبرزها وحدات حماية الشعب الكردية YPG، خلال الحرب على داعش، ومع هزيمة التنظيم ميدانيًا عام 2019، بقيت قسد كسلطة أمر واقع، مدعومة من واشنطن، لكنها دخلت في توترات متقطعة مع النظام السوري، الذي يرى أن السلاح يجب أن يكون حكرًا على الجيش.
وفي المقابل، تخشى قسد من فقدان خصوصيتها الكردية والعربية، ومن تكرار تجارب اندماج فاشلة سابقًا مع الجيش السوري انتهت بإقصاء قادة محليين.
موقف دولي متردد
المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون، دعا مرارًا إلى ضرورة توحيد المؤسسات العسكرية كخطوة نحو حل سياسي شامل، لكن دون تقدم عملي. بينما ترى واشنطن وباريس أن قسد شريك أساسي ضد الإرهاب، ما يفسر لقاءاتها المستمرة مع قيادتها.
من جهتها، تتهم دمشق واشنطن بتعطيل المصالحة، فيما تتهم قسد النظام بمحاولة فرض شروط استسلام لا دمج.
ويرى خبراء أن الأزمة مركّبة حيث تدفع المخاوف الأمنية من داعش قسد للتمسك بالسلاح، فيما يرفض النظام السوري الاعتراف بخصوصية قسد، كما أن دعم واشنطن لقسد يقلل حوافز التنازل، إضافة إلى أن وجود جماعات مسلحة أخرى في الجنوب والشمال يكرس واقع الكانتونات الأمنية.
تقرير المعهد الألماني للشؤون الدولية الصادر في مايو 2025 يؤكد أن الدمج الحقيقي يحتاج اتفاقًا سياسيًا واسعًا، يتضمن إصلاحًا دستوريًا، وإلا فسيبقى مجرد خطوة رمزية.
ضريبة السلاح يدفعها الأبرياء
بين رغبة قسد في حماية مناطقها، وتمسك النظام بـاحتكار السلاح، وغياب تسوية سياسية شاملة، يبقى الضحية هم المدنيون.. ملايين يعيشون في ظل الخوف: من داعش، من التفجيرات، من الحملات الأمنية.
ربما تلخص كلمات إحدى الأمهات من الرقة المشهد كله: "لا يهم من يحمل السلاح.. في النهاية، من يدفع الثمن هم أبناؤنا".
هكذا، تتحول البنادق –مهما كان لون الراية– إلى عبء ثقيل على وطن لم يعرف السلام منذ أكثر من 13 عامًا.