انتهاكات حقوق السكان الأصليين.. حين تتحول حماية البيئة في كينيا إلى مأساة إنسانية

انتهاكات حقوق السكان الأصليين.. حين تتحول حماية البيئة في كينيا إلى مأساة إنسانية
إحدى المحميات الطبيعية في كينيا

في قلب مقاطعة إيسيولو بشمال كينيا، حيث تتناغم السهول الشاسعة مع الحياة البرية الساحرة، تدور مأساة إنسانية صامتة خلف لافتات "الحفاظ على البيئة"، في مشهد يلفه التناقض، تتدفق الاستثمارات العالمية "الخضراء" من شركات مثل “نتفليكس” و"ميتا" لتعويض انبعاثاتها الكربونية، في حين يدفع السكان الأصليون ثمنًا باهظًا من أراضيهم وحقوقهم وسبل عيشهم.

تقرير صادر عن منظمتي "محامون بلا حدود" (ASF) و"الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان" (FIDH) كشف عن جانب مظلم لمشاريع إزالة الكربون التي تديرها منظمة نورثرن رانجلاندز ترست (NRT)، التي تتحكم في 45 محمية طبيعية بدعم دولي كبير، هذه المبادرات التي تُسوَّق رمزاً للاستدامة، تنفذ على حساب المجتمعات المحلية التي تُجبر على مغادرة أراضيها أو تُمنع من الوصول إليها، لتُحرم بذلك من موروث ثقافي وسبل عيش تعود لقرون.

ويُظهر التقرير روايات مؤلمة من أبناء المجتمعات المحلية عن مضايقات قوات الأمن، وعمليات قتل واختطاف خارج نطاق القانون، وتضييق ممنهج على نشطاء حقوق الإنسان الذين يحاولون فضح هذه الانتهاكات، يتحدث الأهالي عن أراضٍ أصبحت فجأة محظورة أو لا يمكنهم دخولها إلا بشروط صارمة، في حين كانت لقرون متاحة لرعي المواشي والزراعة التقليدية.

كما يوثق التقرير صعوبات قانونية متعمدة تُعوق وصول المجتمعات إلى العدالة، بما في ذلك دعاوى كيدية لإسكات القادة المحليين والناشطين. في ظل غياب الحماية القانونية تصبح حرية التعبير والحق في الملكية مجرد شعارات جوفاء.

أراضٍ بلا سند ملكية

في قلب هذه الأزمة يكمن عجز الحكومة الكينية عن تسجيل أراضي المجتمعات رسميًا بموجب قانون أراضي المجتمعات،هذا الفراغ القانوني حوّل آلاف الأسر إلى سكان "غير مرئيين" أمام القانون، محرومين من السيطرة على مواردهم ومن أي حصة عادلة في إيرادات السياحة أو مشاريع الكربون.

تقول غراتسيا سكوتا من ASF: "ما يُنظر إليه على أنه مساحة للحفاظ على الطبيعة أصبح أداة للهيمنة، تحل محل سلطة الدولة وتتحكم في حياة الناس وأراضيهم"، هذه السيطرة لا تهدد فقط الحق في الأرض، بل تهدم الركائز الأساسية للاستقرار الاجتماعي، إذ يغذي الفقر واليأس النزاعات المحلية ويدفع الشباب نحو الهجرة القسرية أو الانخراط في العنف.

ويشدد التقرير على أن المسؤولية لا تقف عند حدود NRT وحدها، بل تمتد إلى الجهات المانحة والمؤسسات الدولية مثل الاتحاد الأوروبي ووكالة التنمية الأمريكية (USAID)، بل وحتى الشركات الكبرى التي تموّل هذه المشاريع لتغطية بصمتها الكربونية، يجب على هذه الأطراف تطبيق العناية الواجبة لحقوق الإنسان والتأكد من أن استثماراتها "الخضراء" لا تتحول إلى أدوات تهجير وانتهاك.

الحكم الأخير للمحكمة العليا في كينيا، الذي قضى بإيقاف أنشطة NRT في محميتين لافتقارهما لموافقة المجتمعات المحلية الحرة والمسبقة، يُعد خطوة قانونية مهمة ورسالة واضحة بأن التنوع البيولوجي لا يمكن أن يُحمى على أنقاض حقوق الإنسان.

أرقام تكشف حجم الكارثة

وفقًا لتقارير دولية وحقوقية، يقدّر أن ملايين الهكتارات من أراضي المجتمعات المحلية في كينيا باتت تحت سيطرة مشاريع الحفظ البيئي، ومع غياب التسجيل الرسمي، يواجه أكثر من 6 ملايين شخص خطر التهجير أو القيود المفروضة على الرعي والزراعة التقليدية. وقد أدت هذه السياسات إلى تفاقم معدلات الفقر وسوء التغذية في المجتمعات الريفية، مع تسجيل ارتفاع ملاحظ في النزاعات المحلية على الموارد.

هذه الأزمة لا تخص كينيا وحدها، بل تُعبر عن معضلة عالمية بين حماية الطبيعة وحقوق الإنسان، كيف نضمن ألا تُستخدم شعارات المناخ غطاءً لانتهاكات ممنهجة؟ وهل يستطيع العالم صياغة نموذج تنمية خضراء لا يُقصي المجتمعات الأصلية، بل يجعلها شريكًا رئيسيًا؟

تجارب المجتمعات المحلية في كينيا تكشف أن التنمية المستدامة لا يمكن أن تكون حقيقية إذا استُخدمت ضد الإنسان. ويظل التحدي الحقيقي هو بناء سياسات بيئية عادلة تُنصف السكان الأصليين، وتُعيد إليهم الدور المركزي في حماية أراضيهم بدلًا من تهميشهم.

جذور الأزمة وتطورها

تاريخيًا، عاش السكان الأصليون في شمال كينيا على رعي الماشية في بيئات شديدة الهشاشة، لكن منذ التسعينيات، تسارعت مشاريع المحميات الطبيعية كمبادرات لمكافحة تغيّر المناخ وتحفيز السياحة البيئية، بدعم من مانحين دوليين، توسع نموذج المحميات التي تديرها كيانات شبه خاصة مثل NRT، إلا أن غياب التسجيل الرسمي لأراضي المجتمعات جعلها عرضة للتهجير، في حين تركزت المنافع في أيدي جهات قليلة. 

واليوم، باتت هذه المحميات رمزًا لأزمة أوسع تتجسد في كيفية التوازن بين حماية الطبيعة وضمان حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية