نساء محتجزات وقتلى في الطرقات.. دارفور تختنق بين الحصار والانتهاكات

نساء محتجزات وقتلى في الطرقات.. دارفور تختنق بين الحصار والانتهاكات
آثار الحرب في دارفور

تعيش ولاية شمال دارفور، وخاصة مدينة الفاشر، واحدة من أسوأ فصول الصراع السوداني المعاصر، حيث تتقاطع الأبعاد العسكرية والسياسية والإنسانية في مشهد شديد التعقيد، ففي الأسابيع الأخيرة، تكشّفت وقائع صادمة عن احتجاز عشرات النساء، وقتل مدنيين على الطرقات، وتهجير قسري واسع، وسط صمت دولي يقلق الناشطين والمنظمات الحقوقية. 

نساء محتجزات وزواج قسري

في أحدث إفادة صدرت عن مركز شمال دارفور لحقوق الإنسان، تمّ الكشف عن احتجاز ميليشيا الدعم السريع لعشرات النساء في موقعين على الأقل بمدينة الفاشر، مع تأكيد حدوث حالات زواج قسري وحمل ناتج عن هذه الانتهاكات، المركز الذي يعمل في ظروف ميدانية صعبة جدًّا، أشار إلى أنّ العدد الحقيقي للمحتجزات قد يكون أكبر بكثير، بسبب انقطاع الاتصالات وصعوبة الوصول للمناطق المتأثرة.

هذه الانتهاكات ليست جديدة في سياق أزمة ومعاناة دارفور فقد وثّقت منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" و"أطباء بلا حدود" مرارًا استخدام العنف الجنسي كأداة حرب في الإقليم منذ 2003. لكن الخطير اليوم هو تكرار النمط ذاته بوتيرة متصاعدة، وفي ظل شبه غياب لأي مساءلة أو حماية فعلية للضحايا.

دعت منظمات حقوقية عدة إلى إجراء تحقيق مستقل وشفاف بشأن هذه الانتهاكات، وضمان سلامة النساء المحتجزات وإطلاق سراحهن فورًا. كما دعت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى تأمين ممرات آمنة للمدنيين وإدخال مساعدات إنسانية عاجلة للمناطق المنكوبة.

حصار وتجويع

في خطوة مثيرة للجدل، وجّهت قوات الدعم السريع وحلفاؤها نداءً لسكان الفاشر بمغادرة المدينة بالكامل، محددين منطقة "قرني" نقطة لتجميع الخارجين، تمهيدًا لنقلهم لاحقًا إلى بلدات كورما وطويلة. النداء رُوّج له باعتباره إجراءً إنسانيًا لحماية المدنيين، لكن التطورات اللاحقة فضحت نوايا مغايرة.

فصباح السبت، وثّقت مصادر محلية وميدانية مقتل ما لا يقل عن 15 مدنيًا برصاص قوات الدعم السريع أثناء محاولتهم الخروج من الفاشر باتجاه منطقة قرني، كما تمّ اعتقال عدد من الشباب بتهم مختلفة، بينها دعم الجيش السوداني والقوة المشتركة، وأثارت هذه الأحداث حالة من الرعب والفوضى في أوساط المدنيين، الذين وجدوا أنفسهم بين نار الحصار والقصف، ونار الخروج نحو مناطق سيطرة قوات تتهم بارتكاب مجازر سابقة.

انتهاكات ترقى لجرائم حرب

مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عبّر في بيان سابق عن قلقه البالغ حيال ما وصفه بالاستهداف الممنهج للمدنيين في شمال دارفور، كما طالبت المفوضة السامية لحقوق الإنسان، فولكر تورك، بإجراء تحقيقات مستقلة حول تقارير الاغتصاب الجماعي والقتل خارج نطاق القانون.

أما بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس) فقد أعربت في تقرير دوري عن خشيتها انهياراً كاملاً للنظام القانوني والأمني في دارفور، مؤكدة أنّ الهجمات الأخيرة على الفاشر قد تؤدي إلى نزوح جماعي جديد، يزيد من تعقيد الأزمة الإنسانية المتفاقمة أصلًا.

من جهتها، وصفت هيومن رايتس ووتش هذه الانتهاكات بأنها جرائم حرب محتملة، مؤكدة أنّ الاستخدام المنهجي للعنف الجنسي ضد النساء والفتيات يرقى أيضًا إلى جرائم ضد الإنسانية، خاصة عندما يتم في إطار حملة منظمة.

صراع نفوذ وتكتيك الأرض المحروقة

لفهم مشهد الفاشر اليوم، لا بد من التذكير بأن دارفور تعيش صراعًا مسلحًا معقّدًا منذ عقدين، تفاقم بعد اندلاع الحرب الأوسع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، فالمدينة التي كانت حتى وقت قريب الملاذ الأخير شبه الآمن في الإقليم، أصبحت منذ مايو 2024 مسرحًا لمحاولات اقتحام متكررة من قوات الدعم السريع، وسط مقاومة من الجيش والقوات المتحالفة معه.

يستخدم الدعم السريع تكتيك الحصار والتجويع لدفع السكان للنزوح القسري، تمهيدًا للسيطرة الكاملة على المدينة، وهو تكتيك وثقته تقارير سابقة في مدن مثل الجنينة وزالنجي، وتؤكد منظمات حقوقية أن هذه الاستراتيجية تتسبب في أزمات إنسانية كارثية، من نقص الغذاء والدواء إلى ارتفاع معدلات الوفيات وسط المدنيين.

تراجع الاهتمام الدولي

تتزامن أزمة الفاشر مع انشغال المجتمع الدولي بأزمات دولية أخرى، ما يجعل الاستجابة بطيئة ودون المستوى المطلوب. تقول العفو الدولية في بيانها الأخير: دارفور تنزلق مجددًا إلى فظائع 2003، في حين أن العالم ينظر بعيدًا.

ويخشى ناشطون محليون أن يؤدي هذا التجاهل إلى إفلات الجناة من العقاب، خصوصًا أن الدعم السريع لا يزال يحتفظ بدعم سياسي وميداني من بعض القوى الإقليمية، ما يزيد من تعقيد أي جهود للمحاسبة أو الضغط الجدي لوقف الانتهاكات.

كارثة إنسانية تلوح في الأفق

تسببت المعارك الأخيرة في نزوح عشرات الآلاف من سكان الفاشر، وسط تقديرات محلية بأن أعداد المحتجزين في ظروف سيئة تصل إلى المئات. ويعاني آلاف المدنيين العالقين في المدينة من انعدام الغذاء والدواء، وانهيار شبه كامل للخدمات الصحية.

تحذر لجنة أطباء السودان المركزية من أن استمرار الحصار سيؤدي إلى انفجار وبائي في المدينة، في ظل شح الأدوية وصعوبة نقل المصابين والجرحى إلى المستشفيات القليلة المتبقية.

تكشف أحداث الفاشر بوضوح أنّ ما يجري ليس مجرد معركة عسكرية تقليدية، بل هو فصل جديد من حرب إبادة جماعية وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. بينما تواصل قوات الدعم السريع استراتيجيتها القائمة على الحصار والترويع، تبدو خيارات المدنيين محدودة للغاية؛ فإما البقاء تحت القصف أو النزوح نحو المجهول.

ويجمع خبراء حقوق الإنسان على أن وقف الانتهاكات يتطلب: تحركًا دوليًا عاجلًا لفرض ممرات آمنة للمدنيين، ودعمًا أكبر لجهود التوثيق والمساءلة، وفرض عقوبات موجهة على قادة الميليشيات المتورطين، إضافة إلى استئناف مسار تفاوضي شامل لحل الأزمة سياسيًا.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية