شوارع بريطانيا تشتعل.. حين يصبح اللجوء وقوداً للاشتباك الاجتماعي
شوارع بريطانيا تشتعل.. حين يصبح اللجوء وقوداً للاشتباك الاجتماعي
على أرصفة مانشستر، وقفت جودي، الممرضة المتقاعدة، تحمل لافتة كتب عليها "اللاجئون مرحب بهم هنا"، في مواجهة صفوف متظاهرين يرفعون شعارات معادية للمهاجرين، يلوحون بالأعلام، ويرددون "أعيدوهم إلى بلادهم".. لم تكن وحدها، لكنها كانت أقلية وسط غضب متصاعد يكسو وجوه البريطانيين في مدن عديدة هذا الصيف.
منذ بداية يوليو وحتى مطلع أغسطس الجاري، لم تكن شوارع مانشستر ولندن ونورويتش مجرد ممرات عابرة، بل مسارح لصدامات حقيقية بين دعاة الكراهية وأنصار التعايش، بين يمين متطرف يطالب بطرد المهاجرين، ومواطنين يقاومون ما يرونه انزلاقًا أخلاقيًا نحو العنف العنصري، بحسب ما ذكر موقع "مهاجر نيوز"، اليوم الثلاثاء.
في بلدة إيبينغ بمقاطعة إسكس، كان فندق "بيل" مسرحًا لأولى شرارات الشغب، أكثر من مئة محتج تجمعوا رافضين إقامة طالبي اللجوء هناك، بعد اتهام أحد النزلاء –طالب لجوء إثيوبي– بمحاولة الاعتداء على فتاة قاصر، القضية لا تزال في يد القضاء، لكن الغضب سبق المحاكمة، واندلعت أعمال شغب أصيب خلالها ثمانية من رجال الشرطة.
تكرّر المشهد في شرق لندن، أمام فندق في "كاناري وارف"، حيث حاول متظاهرون اقتحام المبنى الذي يأوي لاجئين، الشرطة تحدثت عن مضايقات و"تحرش لفظي" بالنزلاء، ومحاولات لمنع دخول الخدمات، وألقت القبض على رجل بعد الاعتداء على ضابط شرطة.
"أعيدوهم من حيث أتوا"
بريندان أوريلي، أحد المتظاهرين من جماعة "بريطانيا أولًا"، لم يُخفِ موقفه، قائلاً: "لدينا مشردون في الشوارع.. بينما تملأ الفنادق بالمهاجرين"، بالنسبة له، الحل واضح: الإغلاق الكامل لأبواب بريطانيا أمام أي وافد جديد.
لكن على الجهة المقابلة، تعلو أصوات أخرى مثل صوت جودي، التي تقول وهي ترفع لافتتها: "هؤلاء ليسوا مهاجرين غير شرعيين.. إنهم بشر هاربون من الحروب والفقر، المشكلة الحقيقية في خطاب الكراهية، لا في هؤلاء الناس".
وتشير التقارير إلى أن عام 2024 شهد تصاعدًا ملحوظًا في نشاط الجماعات اليمينية المتطرفة… دراسة لمركز "Hope Not Hate" أوضحت أن هذه الجماعات زادت أنشطتها بنسبة 20% مقارنة بالعام السابق، مدفوعة بالأزمة الاقتصادية، والتضخم، وارتفاع البطالة.
وفي مشهد آخر بمدينة رذرهام، حاول متظاهرون إحراق فندق يؤوي لاجئين باستخدام حاويات القمامة المشتعلة. وبين زجاجات المولوتوف ومقاعد المقهى المكسّرة، أُصيب العشرات من رجال الشرطة، وتفاقم الرعب في نفوس السكان.
اللاجئون والمجتمعات المتنوعة
في تقرير نشرته "مؤسسة الصحة النفسية" هذا الربيع، وُصف تأثير هذه الأحداث بـ"المدمر" على اللاجئين.. العديد منهم أصبحوا يخشون مغادرة الفنادق حتى لقضاء حاجاتهم الأساسية، خشية التعرض لهجمات أو ملاحقات عنصرية.
وقالت إحدى النساء المسلمات في التقرير: "ابنتي ذات العشر سنوات توقفت عن الذهاب إلى المدرسة... كلما رأت شرطيًا تبكي وتطلب أن نعود إلى بلدنا". هكذا تحولت بريطانيا –بلد اللجوء التقليدي– إلى بيئة طاردة، لا لأن قوانينها قاسية فقط، بل لأن الشارع نفسه بات غير آمن.
قد لا تكون هذه المشاهد مفاجئة في ظل سياسات حكومة المحافظين السابقة التي دفعت بمشروع ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا، والذي قوبل بانتقادات واسعة، واعتُبر من قبل منظمات حقوقية خطوة غير إنسانية.
ورغم فوز حزب العمال في انتخابات يوليو 2024، ووعودهم بمراجعة شاملة للسياسات، فإن الورقة البيضاء الجديدة حول الهجرة حملت إجراءات صارمة، من ضمنها تمديد فترة الإقامة المؤهلة للجنسية إلى عشر سنوات، ورفع شروط الدخل واللغة.
انتقد البعض هذه الإجراءات باعتبارها استجابة لضغوط الشارع ووسائل الإعلام، التي باتت تصور المهاجرين بوصفهم "غير شرعيين" أكثر من كونهم بشرًا يستحقون الحماية.
التعدد والكرامة الإنسانية
في بريطانيا اليوم، لم تعد قضية الهجرة مجرد رقم في التقارير أو بندًا في الانتخابات، لقد أصبحت اختبارًا حقيقيًا لقيم التعدد والكرامة الإنسانية، في زمن تشتد فيه الأزمات وتختلط فيه الحقائق بالشائعات.
يقول أوريليان موندون، الخبير في اليمين المتطرف، إن "أغلب هذه الاحتجاجات ليست شعبية.. بل منسقة عبر شبكات اليمين المتطرف على وسائل التواصل"، محذرًا من "صيف آخر عنيف" في الأفق.
ورغم محاولة الشرطة احتواء الأزمة، ورغم الأصوات التي لا تزال تنادي بالرحمة والاحتواء، يبقى السؤال مفتوحًا: هل تعود بريطانيا إلى جذورها كملاذ آمن، أم تنزلق إلى مزيد من الانغلاق والخوف؟