أيقونة الفقراء في العالم.. "فاضل عابد" رجل نذر نفسه للذين لا صوت لهم

أيقونة الفقراء في العالم.. "فاضل عابد" رجل نذر نفسه للذين لا صوت لهم
الراحل فاضل حسن عابد

 

مع رحيل فاضل حسن عابد، لا تفقد بنغلاديش مجرد رائد تنموي أو فاعل خير، بل يودع العالم واحدًا من أنبل رجالات الإنسانية الذين آمنوا بأن تغيير الواقع يبدأ من القاع، من الأرض، من وجوه الفقراء المنسيين في الحقول والمخيمات وأزقة المدن المحرومة.

توفي عابد عن عمر ناهز 83 عامًا، تاركًا خلفه إرثًا تنمويًا وإنسانيًا نادر المثال، تجسّد في منظمة "براك" التي أسسها عام 1972، وتحولت من مشروع مساعدات صغير إلى واحدة من أكبر المنظمات غير الحكومية في العالم.

من الحياة المريحة إلى التضامن مع المحتاجين

ولد فاضل حسن عابد في عائلة ثرية في بنغلاديش، وكان يمكن لحياته أن تسير على درب الرفاه الذي رُسم له.. لكنه اختار طريقًا مختلفًا.

بعد دراسة المحاسبة في اسكتلندا، عمل في شركة نفط شهيرة، حيث كانت له مهنة مستقرة وواعدة، لكن نكبة الاستقلال في بنغلاديش عام 1971، وما رافقها من كوارث إنسانية، غيرت كل شيء، في قلب الحرب، ومع مشاهد النزوح والجوع، قرر عابد أن يكون جزءًا من الحل... ترك عمله، وباع ممتلكاته، وكرّس نفسه لمكافحة الفقر.

"براك": مشروع إنساني بدأ من لا شيء

في عام 1972، أسس فاضل حسن عابد منظمة "براك"، التي بدأت كمبادرة بسيطة لتقديم مساعدات للنازحين بعد حرب الاستقلال. لكن ما لبثت أن تحولت إلى تجربة تنموية غير مسبوقة.

أدرك عابد أن الفقر لا يُعالج بالصدقات، بل بالتمكين، فصممت "براك" برامجها لتكون أدوات تحرر حقيقية: قروض صغيرة، تدريبات مهنية، تثقيف صحي، وتمكين المرأة.

ولم يكن تركيز المنظمة على بنغلاديش فقط، بل امتد إلى أكثر بقاع العالم هشاشة، في سييراليون، وليبيريا، ونيبال، وأفغانستان، وجنوب السودان.

منظمة "براك".. مؤسّسة بأجنحة إنسانية

اليوم، تُصنّف "براك" كأكبر منظمة غير حكومية في العالم من حيث الحجم والتأثير.

تخدم المنظمة عشرات الملايين من المستفيدين، وتعمل في مجالات حيوية تمس جوهر حياة الناس: الصحة، التعليم، الزراعة، التمويل الصغير، البيئة، والمساواة بين الجنسين.

ولعل ما يميز "براك" ليس فقط حجمها، بل المنهجية الشاملة التي تتبعها، فهي لا تكتفي بإعطاء السمكة، ولا حتى تعليم الصيد فقط، بل تعمل على إصلاح النهر كله الذي يعيش على ضفافه الفقراء.

أرقام تُلخّص الحلم الكبير

تعمل "براك" في أكثر من 10 دول، وصل عدد موظفيها إلى أكثر من 100,000 شخص، معظمهم من المجتمعات المحلية المستفيدة، وقدمت المنظمة خدماتها إلى ما يفوق 100 مليون شخص منذ تأسيسها.

استطاع البرنامج التمويلي التابع لـ"براك" إخراج أكثر من مليون عائلة من دائرة الفقر المدقع، وفق تقييمات دولية.

رجل الصمت والإنجاز

رغم هذا الإرث الإنساني العميق، ظل فاضل حسن عابد بعيدًا عن الأضواء، نادر الظهور في وسائل الإعلام المحلية أو العالمية، لا يسعى إلى الجوائز ولا يتحدث كثيرًا عن نفسه.

قال في أحد لقاءاته النادرة: "لم يكن هدفي يومًا بناء منظمة، بل ببساطة مساعدة الناس".

العالم يودّع أيقونة إنسانية فريدة

توفي عابد في ديسمبر في أحد مستشفيات العاصمة دكا بعد صراع مع ورم في المخ، بعد أشهر من تقاعده عن رئاسة المنظمة التي أنشأها، في صيف 2019. وأعلن المتحدث باسم "براك" الخبر قائلًا: "رحل المؤسس، لكن الرسالة باقية".

بُنغلاديش بعد الاستقلال في 1971 كانت واحدة من أفقر دول العالم، أنهكتها الحرب، والكوارث الطبيعية، والفساد، وكانت التنمية حلمًا بعيد المنال.

في تلك اللحظة، لم تكن الحكومة قادرة وحدها على النهوض، وهنا جاءت أهمية مبادرات مثل "براك"، التي سدّت فجوة ضخمة في التنمية ووفرت نموذجًا عالميًا في العمل غير الحكومي.

اختارت المنظمة أن تبدأ من الريف، حيث يُدفن الفقر بعيدًا عن عدسات المدن، وراهنت على المرأة الريفية باعتبارها المفتاح الحقيقي للتغيير، ومع الزمن، أثبتت التجربة نجاحها.

قد يكون عابد قد غادر العالم جسدًا، لكن روحه ستبقى حية في كل مشروع تنموي يحمل فكرته، في كل طفلة تعلمت القراءة بفضل برامج "براك"، وفي كل مزارع خرج من دوامة الجوع بفضل قروض صغيرة، وفي كل امرأة أصبحت قادرة على إدارة مشروعها الخاص.

في زمن يزداد فيه العالم تشرذمًا، ويهيمن فيه الجشع، تبرز سيرة فاضل حسن عابد كتذكير نادر بأن التغيير يبدأ عندما نُحسّ بأنات الفقراء ونختار ألا نُدير لهم ظهورنا.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية