زنازين بلا ضوء.. توثيق معاناة الفلسطينيين في سجن ركيفيت الإسرائيلي
زنازين بلا ضوء.. توثيق معاناة الفلسطينيين في سجن ركيفيت الإسرائيلي
تُعيد شهاداتٌ موثقة وتقاريرُ حقوقية وصحفية تسليط الضوء على واحدةٍ من أكثر صور الاحتجاز قسوةً في التاريخ المعاصر، حيث تكشف عن ممارسات ممنهجة تمارسها السلطات الإسرائيلية بحق المعتقلين الفلسطينيين في سجن راكيفيت الواقع تحت الأرض في مدينة الرملة، في انتهاك صارخ للقانون الإنساني الدولي وحق الإنسان في الكرامة والحرية.
وكشفت صحيفة الغارديان البريطانية في تقريرٍ نشرته، اليوم السبت، عن تفاصيل الحياة داخل هذا السجن الذي لا يرى نزلاؤه ضوء النهار منذ شهور، حيث تحتجز إسرائيل عشرات الفلسطينيين من غزة في مجمع راكيفيت، وهو سجن أُعيد تشغيله بأمرٍ من وزير الأمن القومي اليميني المتطرف إيتامار بن غفير بعد هجمات 7 أكتوبر 2023، ليكون مقرًا لعزل المعتقلين في ظروف غير إنسانية.
يوضح محامو اللجنة العامة لمناهضة التعذيب في إسرائيل (PCATI) أن من بين المحتجزين مدنيين لم تُوجّه إليهم تهم، منهم ممرض اعتُقل بملابسه الطبية أثناء عمله، وشاب يعمل بائعًا للطعام اعتُقل على حاجز عسكري، كلاهما محتجز منذ شهور دون محاكمة أو تواصل مع عائلته، في زنازين خالية من الضوء الطبيعي والتهوية، حيث تُسحب الفرش صباحًا ولا تُعاد حتى منتصف الليل، ويُسمح لهم أحيانًا بخمس دقائق فقط خارج الزنزانة كل يومين.
تحذيرات من خطورته
توثق الصحيفة أن السجن الذي كان قد أُغلق في ثمانينيات القرن الماضي بعد وصفه بـ"غير الإنساني"، أُعيد تشغيله رغم تحذيرات داخلية من خطورته على الصحة النفسية والجسدية للسجناء.
ونقلت "الغارديان عن المدير التنفيذي للجنة العامة لمناهضة التعذيب في إسرائيل، تال شتاينر، قوله إن احتجاز الأشخاص في بيئة معزولة تمامًا عن ضوء النهار
يشكل تعذيبًا صامتًا، ينهك الجسد ويكسر الروح".
أدان المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنشاء هذا السجن تحت الأرض، معتبرًا أنه "صُمّم ليمارس التعذيب بشكلٍ بنيوي"، وأكد في بيانه أن البنية الهندسية للسجن ومرافقه تُجسّد سياسةً إسرائيلية ممنهجة لتحويل أماكن الاحتجاز إلى أدواتٍ للعقاب النفسي والجسدي.
وأوضح المرصد أن الصور والمقاطع التي نشرتها وسائل إعلام إسرائيلية تظهر معتقلين فلسطينيين مكبلين بالسلاسل داخل زنازين ضيقة بلا فرش أو أغطية، محرومين من ضوء الشمس، وهو ما يخالف بشكلٍ مباشر اتفاقيات جنيف التي تُلزم بمعاملة الأسرى معاملة إنسانية بغض النظر عن التهم المنسوبة إليهم.
وأشار البيان إلى أن الادعاءات الإسرائيلية بأن السجن مخصص لما تصفه بـ"نخبة حماس وحزب الله" لا تُبرر انتهاك القانون الدولي، بل تُستخدم ذريعةٍ للتعذيب والانتقام الجماعي، واستشهد المرصد بحالات أُفرج عنها لاحقًا بعد ثبوت اعتقالها دون تهمة، مؤكدًا أن "الزعم بالانتماء إلى النخبة" أصبح غطاءً لإسقاط الحماية القانونية عن المعتقلين.
تُوثّق الوقائع
أفاد المرصد الأورومتوسطي أن معاملة المعتقلين الفلسطينيين في سجون إسرائيل "تجسّد جريمةً منهجية"، إذ يُحرمون من إنسانيتهم وكرامتهم، ويُستخدم الاحتجاز وسيلةٍ للعقاب والتنكيل.
وأشار إلى وجود ما لا يقل عن ثلاثين سجنًا ومركز احتجاز، بالإضافة إلى معسكراتٍ أُقيمت خلال الحرب الأخيرة على غزة، منها مركز سدي تيمان العسكري الذي أصبح شاهدًا على عمليات تعذيب وقتل للمعتقلين.
وتؤكد شهادات المفرج عنهم، وفق المرصد، أن الجيش الإسرائيلي ومصلحة السجون يتناوبان على إدارة تلك المرافق، ويتقاسمان مسؤولية إساءة معاملة السجناء، وكشف عن احتجاز آلاف الفلسطينيين في ظروفٍ غير قانونية، بعضها في مناطق صحراوية مفتوحة محاطة بالأسلاك الشائكة، أو في زنازين ضيقة تفتقر إلى التهوية والماء.
وطالب المرصد الدول والمنظمات الدولية بالتحرك العاجل لوقف هذه الانتهاكات، والإفراج الفوري عن المعتقلين تعسفياً، والسماح للجان التحقيق بزيارة أماكن الاحتجاز، داعيًا إلى فتح تحقيقٍ دولي مستقل في حالات الوفاة داخل السجون الإسرائيلية، ومحاسبة المسؤولين عنها وفق آليات الولاية القضائية العالمية.
الإرهاب النفسي
من جانبه، أطلق نادي الأسير الفلسطيني تحذيرات من تفاقم أوضاع المعتقلين في قسم راكيفيت تحت الأرض داخل سجن الرملة، مؤكدًا أنهم يعيشون في عزلةٍ تامة وسط ما وصفه بـ"الإرهاب النفسي المنظم".
ونقل النادي، وفق تقارير إعلامية عن أماني سراحنة المتحدثة باسم مكتب شؤون الأسرى، قولها إن المعتقلين محرومون من أبسط أشكال التواصل مع العالم الخارجي، ومنها الرعاية الطبية والاستشارات القانونية، وأوضحت أن الزيارات القانونية تتم تحت مراقبةٍ صارمة، وأن كل كلمة بين المحامي والمعتقل تخضع للتسجيل، في انتهاكٍ لحق الدفاع وضمان المحاكمة العادلة.
وأضافت سراحنة أن الخوف واضح على وجوه المعتقلين، وأن بعضهم انهار بالبكاء حين علم أن عائلته ما زالت على قيد الحياة، وروت إحدى المعتقلات أن السجناء داخل السجن لا يعرفون الوقت؛ لأنهم لا يرون الشمس، ولا يسمعون أصوات الحياة. بل إن إدارة السجن علّقت صورة كبيرة لغزة المدمّرة على جدران الممرات، في مشهدٍ قالت سراحنة إنه "يحوّل الجدران إلى أداة تعذيب بصري".
تُظهر شهادات المعتقلين والمحامين الذين زاروا سجن راكيفيت أن هذا المكان تجاوز حدود العقاب إلى منطقة انعدام الإنسانية، فقد وصف أحد المعتقلين للمحامية سجا مشرقي برانسي كيف أُجبر على الانحناء ووضع رأسه على الأرض وهو مكبل من اليدين والقدمين، في حين حُرم من النوم على مدار أيام طويلة بعد سحب الفرش من الزنزانة.
وقالت برانسي إن أحد موكليها، وهو ممرض وأب لثلاثة أطفال، لم يرَ ضوء الشمس منذ يناير، ولم يتلق أي خبرٍ عن أسرته، وأضافت أن لقاءً استمر دقائق قليلة تحوّل إلى لحظة إنسانية نادرة حين أخبرته أن والدته لا تزال على قيد الحياة.
وفي شهادة أخرى، نقلت محامية اللجنة العامة لمناهضة التعذيب في إسرائيل، جنان عبدو، أن المراهق الذي تدافع عنه لم يُخبره أحد باسم السجن الذي يُحتجز فيه، وسألها ببراءة: “أين أنا؟ ولماذا أنا هنا؟” كان هذا أول تواصلٍ له مع العالم الخارجي منذ عام تقريبًا.
تتفق جميع المصادر الحقوقية على أن ما يجري في سجن راكيفيت يشكل نموذجًا مصغّرًا لسياسةٍ واسعة تتبعها إسرائيل في تعاملها مع المعتقلين الفلسطينيين، وهي سياسة قائمة على الحرمان والإذلال والعزل الكامل.
لجنة تحقيق دولية
وطالب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان بتمكين لجان الأمم المتحدة، مثل لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالأرض الفلسطينية المحتلة، من الوصول إلى السجن للتحقيق في الانتهاكات الموثقة، ومنها العنف الجنسي والتعذيب الجسدي والنفسي، كما دعا إلى مساعدة المحكمة الجنائية الدولية في جمع الأدلة والإحالات المتعلقة بهذه الجرائم، لضمان المساءلة وعدم الإفلات من العقاب.
في المقابل، نقلت الغارديان عن مصلحة السجون الإسرائيلية قولها إنها تعمل وفقًا للقانون وتحت إشراف مراقبين رسميين، في حين أحالت وزارة العدل الأسئلة حول سجن راكيفيت إلى الجيش الإسرائيلي الذي بدوره أحالها إلى مصلحة السجون، في حلقةٍ من التهرّب الإداري التي تعكس غياب أي نية حقيقية للمساءلة أو الشفافية.
تكشف الشهادات المتقاطعة بين الصحفيين والحقوقيين والمحامين أن ما يجري في سجن راكيفيت ليس مجرد تجاوز فردي، بل نظامٌ متكامل لإنتاج المعاناة، من الزنازين المظلمة إلى الحرمان من النوم والضوء، ومن عزل المعتقلين عن عائلاتهم إلى التلاعب بحقوقهم القانونية، تتجلى ملامح جريمةٍ تتجاوز حدود الاحتلال العسكري إلى انتهاكٍ للضمير الإنساني ذاته.
تتسع الفجوة بين مبادئ القانون الدولي وواقع المعتقلين الفلسطينيين، ليصبح الضوء المفقود في زنازين راكيفيت رمزًا لحقٍ إنساني غائب، ولضرورة مساءلةٍ عاجلة تُعيد إلى الإنسان الفلسطيني حقه في الكرامة، وإلى العدالة معناها الحقيقي.










