مصير مجهول.. كيف حجّمت المحكمة الأوروبية اندفاعات فيينا نحو عودة اللاجئين القسرية إلى سوريا؟
مصير مجهول.. كيف حجّمت المحكمة الأوروبية اندفاعات فيينا نحو عودة اللاجئين القسرية إلى سوريا؟
أوقفت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان مؤخرا وبصورة عاجلة ترحيلاً ثانياً من النمسا إلى سوريا، وطلبت من فيينا توضيحات مفصلة حول تقييمها لمخاطر الموت أو التعذيب والانتهاكات الجسيمة عند العودة، في إجراء مؤقت يمتد حتى أوائل سبتمبر، وجاء القرار بينما لا يزال مصير أول شخص رحّلته النمسا إلى سوريا في يوليو طي المجهول، وهو ما زاد من ثقل المخاوف القانونية والإنسانية حول سلامة أي عائد قسرياً.
ما الذي قررته المحكمة تحديداً؟
لجأت المحكمة الأوروبية إلى ما يُعرف بالإجراءات المؤقتة بموجب القاعدة 39، وهي أداة استثنائية تستخدم عندما يكون هناك خطر وشيك بوقوع ضرر لا يمكن إصلاحه، مثل التعذيب أو التعرّض للموت، وطلبت من السلطات النمساوية بيان الأسس والبيانات التي بنت عليها تقييمها للسياق السوري الحالي، وما إذا راعت احتمال الاختفاء القسري أو سوء المعاملة في أماكن الاحتجاز، ويشير ذلك إلى معيار قضائي واضح بأنه لا تكفي الاطمئنانات السياسية العامة، بل يلزم أن يكون تقييم الخطر فردياً، ومسنوداً إلى مصادر مستقلة وحديثة.
القانون فوق السياسة
يحظر نص المادة الثالثة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التعذيب والمعاملة أو العقوبة اللاإنسانية أو المهينة حظراً مطلقاً، ويفرض على الدول التزاماً بعدم الإعادة القسرية عندما تتوافر أسباب جدية تدل على وجود خطر حقيقي بالتعرض لمثل هذه الانتهاكات عند الترحيل، وقد رسّخت المحكمة هذا المبدأ في اجتهادات بارزة، مثل قضية سعدي ضد إيطاليا، مؤكدة أن اعتبارات الأمن العام لا تتغلب على الحظر المطلق للتعذيب، كما تشدد أدلة المحكمة وإرشاداتها التفسيرية على ضرورة الاستناد إلى تقارير دولية حديثة وموثوقة عند تقييم بيئات الخطر، وفق المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
سوريا.. واقع غير مستقر
على الرغم من التحولات السياسية الجذرية التي شهدتها سوريا منذ ديسمبر 2024، يقرّ عدد من تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية بأن مخاطر الاحتجاز التعسفي وسوء المعاملة والاختفاء القسري ما زالت قائمة في أجزاء متعددة من البلاد، وأن الوصول الرصدي المستقل لا يزال محدوداً أو متنازعاً عليه، وقد أشار خبراء أمميون وتقارير دولية إلى استمرار أنماط الانتهاكات في سياقات الاحتجاز، ما يجعل أي تقييم بالسلامة العامة للعودة بعيداً عن الاطمئنان، وهذا الواقع الميداني المتقلب هو ما استحضرته المحكمة الأوروبية عند فحص معيار الخطر الفردي الذي قد يواجهه اللاجئون المرحّلون.
مصير مجهول يزيد المخاوف
إحدى نقاط الارتكاز التي دفعت المحكمة إلى التحرك العاجل هي التقارير المتداولة عن مجهولية مصير أول مُرحّل من النمسا إلى سوريا، فغياب القدرة على التحقق من سلامة ذلك الشخص، وندرة قنوات المراقبة الفعالة على الأرض، يعززان الشكوك في أن أي ترحيل لاحق قد يعرّض أصحابه لمخاطر غير قابلة للتدارك، وهو بالضبط ما تسعى القاعدة 39 لمنعه.
ردود فعل حقوقية وأممية
انتقدت منظمات حقوقية أوروبية نمط التوجه إلى ترحيلات قسرية إلى سوريا، معتبرة أن أي قراءة متعجلة لتحسّن الأوضاع تتجاهل تقارير مستقلة عن بقاء مخاطر جسيمة في مرافق الاحتجاز وعند نقاط السيطرة، وأن غياب الضمانات الفردية والرقابة المحايدة يجعل من الإعادة القسرية مقامرة بسلامة الناس، وكررت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين موقفها المعلن بأن سوريا لا تزال غير آمنة لعودة اللاجئين قسراً، ودعت الدول إلى احترام مبدأ عدم الإعادة القسرية وتقييم كل حالة على حدة بالاستناد إلى مصادر معلومات محدثة.
منظمات دولية: الحماية أولاً
جدّدت "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية" الدعوة إلى عدم التضحية بحماية السوريين على مذبح الحسابات السياسية، محذرتين من أن تعليق بعض الدول الأوروبية إجراءات لجوء أو الدفع نحو العودة يفتقر إلى سند واقعي في ظل مؤشرات الخطر المستمر، بما في ذلك الانتهاكات عند نقاط العبور وفي مراكز الاحتجاز، ورأت المنظمتان أن أي خطة للعودة يجب أن تقوم على طواعية حقيقية، ومعلومات وافية، وضمانات مؤسسية قابلة للتحقق، وهو ما لا يتوفر حالياً.
يُظهر رصد المفوضية أن أعداد اللاجئين السوريين المسجلين لا تزال مرتفعة، وأن ملايين الأشخاص داخلياً وخارجياً يعيشون في وضع هش يتأثر بتدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية، وفي حين سجلت المفوضية منذ ديسمبر 2024 عودة عشرات الآلاف إلى مناطق مختلفة، فإنها تؤكد أن معدلات العودة الطوعية تبقى محدودة جداً قياساً بحجم الشتات، وأن دوافعها في الغالب اقتصادية ومن منظور قانوني، لا تصلح هذه الأرقام بذاتها لتبرير افتراض الأمان العام، ما لم تُربط بضمانات ملموسة وآليات رقابة مستقلة.
ما الذي يعنيه القرار للنمسا وأوروبا؟
لا يلغي قرار المحكمة الأوروبية سيادة الدول في إدارة الهجرة، لكنه يذكّر بحدود قانونية لا يمكن تجاوزها بأنه عندما يقوم خطر التعذيب أو سوء المعاملة، تُقدّم حماية الحياة والكرامة على أي اعتبارات أخرى، وبالنسبة للنمسا، يفرض القرار إعادة فحص منهجية تقييم الخطر، وشفافية أكبر في الاستدلال على مصادر المعلومات، وإتاحة حق الطعن الفعال، وعلى المستوى الأوروبي، يعيد القرار فتح نقاش واسع حول مشروعية سياسات تعليق البت في طلبات لجوء أو الدفع باتجاه إعادة قسرية من دون ضمانات قضائية وإنسانية كافية.
من الدروس الراسخة في اجتهاد المحكمة أن الدول لا تستطيع الاحتماء بسرديات عامة عن تغير الأوضاع، فالتقدير القانوني الملزم يجب أن يكون شخصياً، يلتقط عوامل الهوية والانتماء السياسي والمناطقي، وسوابق الاحتجاز، والمخاطر المتأتية من الأجهزة المسيطرة فعلياً في مناطق المقصد، كما يتعيّن الاستناد إلى مصادر مستقلة ومحدثة، تشمل تقارير أممية وحقوقية، لا إلى تقديرات داخلية أو مراسلات ثنائية يصعب التحقق منها.
انعكاسات إنسانية مباشرة
بالنسبة للأفراد المعنيين، يوفر القرار غالباً فسحة زمنية للحصول على تمثيل قانوني، واستكمال ملفات الأدلة الطبية والنفسية، وتقديم إفادات مفصلة حول مسارات الخطر الفردي، كما يتيح للمحاكم الوطنية إعادة النظر، وللسلطة التنفيذية مراجعة سياساتها بما يتوافق مع التزاماتها الدولية، وفي بيئة سورية لا تزال تعاني انتهاكات موثقة في سياقات الاحتجاز والتنقل وسيادة مجموعات مسلحة متعددة، يصبح هذا الهامش القانوني صمام أمان أخير أمام وقوع أذى لا يمكن علاجه، بحسب "ريليف ويب".
يُظهر التعليق المؤقت لعمليات ترحيل إلى سوريا أن الجمع بين بيئة ميدانية مضطربة ومعلومات غير مكتملة يزيد كلفة أي قرار متسرّع على صعيد الحقوق الأساسية فالرسالة القضائية واضحة بأنه لا ترحيل مع خطر جدي على الحياة أو الكرامة، ولا بديل عن التقييم الفردي المستند إلى مصادر مستقلة محدثة، مع إتاحة رقابة قضائية فعالة، وسياسياً، لا يمنع ذلك الدول من مكافحة الجريمة أو إدارة حدودها، لكنه يلزمها بأن تفعل ذلك من دون خرق القانون الدولي لحقوق الإنسان.
المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ومقرها ستراسبورغ، تُشرف على تطبيق الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان في الدول الأعضاء بمجلس أوروبا، تتيح القاعدة 39 للمحكمة اتخاذ إجراءات مؤقتة عندما يلوح خطر ضرر لا يمكن إصلاحه، خصوصاً في قضايا الترحيل والطرد، يفرض نص المادة الثالثة من الاتفاقية حظراً مطلقاً على التعذيب والمعاملة اللاإنسانية، ويتولد عنه مبدأ عدم الإعادة القسرية، وفي الحالة النمساوية الأخيرة، طلبت المحكمة وقف الترحيل إلى أوائل سبتمبر وإيضاحات حول تقييم الخطر على ضوء تقارير حديثة عن استمرار الانتهاكات في سوريا، بما في ذلك مخاطر في سياقات الاحتجاز وصعوبة الوصول الرصدي المستقل، إضافة إلى بقاء مصير أول مُرحّل مجهولاً. تتقاطع هذه المعطيات مع مواقف المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التي تعتبر سوريا غير آمنة للعودة القسرية، ومع تحذيرات منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية من أن تعليق إجراءات اللجوء أو الدفع باتجاه عودة قسرية بلا ضمانات يعرض حياة وكرامة اللاجئين للخطر.