العنف الداعشي يتجدد في سوريا والعدالة مؤجلة بين غياب القانون الدولي والفراغ الأمني
العنف الداعشي يتجدد في سوريا والعدالة مؤجلة بين غياب القانون الدولي والفراغ الأمني
تتكشف في شمال وشرق سوريا موجة جديدة من هجمات تنظيم داعش تؤكد أن الهزيمة العسكرية للتنظيم لم تُنهِ قدرته على الإيذاء، في خلال النصف الأول من الشهر الجاري فقط وثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان أربع عشرة عملية استهدفت نقاطا عسكرية وأمنية ومدنيين في مناطق الإدارة الذاتية، معظمها في دير الزور، وأسفرت عن قتلى وجرحى وعمليات ترهيب وابتزاز.
ومنذ مطلع عام 2025 أحصى المرصد مئة وثلاثا وخمسين عملية للتنظيم داخل مناطق نفوذ قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، نتج عنها أربعة وستون قتيلا بينهم مدنيون، في منحى يعكس عودة أساليب الاغتيال والكمائن والعبوات الناسفة بعد سنوات من انحسار السيطرة الجغرافية، هذه الأرقام لا تقف عند حدود الإحصاء، بل تعني أن حياة يومية هشة باتت معرضة للانهيار مع كل طلقة نار أو انفجار على طريق ترابي.
ميدان دير الزور قلب الشبكة
تبدو دير الزور اليوم بمثابة القلب التشغيلي لخلايا داعش في سوريا، فمن الهجمات على الحواجز في ذيبان والزر، إلى استهداف آليات الأسايش في أبريهة والجنينة، يتبدى نمط عمليات يعتمد الدراجات النارية والأسلحة الخفيفة والعبوات الناسفة، مع تفضيل للكر والفر وتجنب الاشتباك الطويل، وفي حالات عدة هاجمت الخلايا صهاريج نقل النفط أو لوحت بالعقاب لمدنيين بدعوى عدم دفع الزكاة، ما يحوّل السكان إلى رهائن لمنطق الجباية القسرية، وتتوسع رقعة المخاطر إلى الرقة والحسكة بعمليات أقل عددا لكنها متواترة، ما يبقي التهديد قائما على امتداد الضفة الشرقية للفرات وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان.
تكتيكات متحولة ومساحات رخوة
تكشف تفاصيل الهجمات أن التنظيم يجيد توظيف الجغرافيا والهشاشة الأمنية حاليا في سوريا، فالمناطق الريفية متباعدة المراكز، والطرق الفرعية المحاذية للأنهار والبادية، تمنح الخلايا ممرات آمنة نسبيا، كما يستفيد داعش من تناقضات سلطات الأمر الواقع وتزاحم القوى المحلية، ومن محدودية الإمكانات لدى القوى الأمنية في الإنذار المبكر والتحقيق الجنائي وملاحقة الشبكات اللوجستية، ويعزز هذا المشهد تحذيرات أممية متكررة من أن التنظيم، وإن كان خسر نفوذه الإقليمي، إلا أنه لا يزال يتغذى على مناطق الفراغ وملفات غير محسومة مثل معتقلات ومخيمات عائلات المقاتلين، حيث تصطدم الضرورات الأمنية باعتبارات حماية الحقوق، وفي مخيم الهول وحده لا يزال يعيش عشرات الآلاف معظمهم نساء وأطفال في ظروف قاسية، مع استمرار الحاجة إلى حلول مستدامة تشمل المحاسبة وإعادة التأهيل والإعادة إلى الأوطان لمن تنطبق عليهم الشروط.
إفادات حقوقية وتحذيرات أممية
تقارير المرصد السوري توثق مسارات التصعيد كما تسجل التوزع الجغرافي للعمليات، فيما تؤكد تقارير خبراء الأمم المتحدة إلى مجلس الأمن أن الخطر العالمي لداعش لم ينته، مع تحوله إلى نمط تمرد منخفض الحدة يعتمد الخلايا والمتعاطفين وشبكات التمويل المبعثرة، مع إبقاء سوريا ضمن بؤر القلق لأسباب تتعلق بالفراغات الأمنية والملفات العالقة.
التقرير العشرون للأمين العام بشأن تهديد داعش، والتقارير الدورية لفريق الرصد التابع للجنة عقوبات القاعدة وداعش، يلفتان إلى أن ديناميات التنظيم تعتمد إعادة التموضع وتكثيف الاستهدافات الرمزية لاستنزاف الخصوم وإرباك المجتمعات، وأن تعطيل مصادر تمويله وتدفقات المقاتلين الأجانب يظل شرطا لازما لا كافيا، هذه الخلاصات تلتقي مع تقييمات بحثية مستقلة ترى أن داعش، من دون خلافته، لا يزال بعيدا عن الهزيمة النهائية.
القانون الدولي ومسؤوليات الأطراف
على الرغم من اتساع التعريفات السياسية للإرهاب، يظل ميزان القانون الدولي الإنساني واضحا بشأن حماية المدنيين، ويحظر القانون، في النزاعات غير الدولية، الهجمات الموجهة ضد المدنيين أو الأعيان المدنية، ويُلزم جميع الأطراف، دولاً كانت أم جماعات مسلحة غير حكومية، بالتمييز والاحتياط والتناسب، أي هجوم لا يميز، أو يهدف إلى بث الرعب بين السكان، يعد انتهاكا جسيما وقد يرقى إلى جريمة حرب، كما تنطبق الضمانات الأساسية للمحتجزين بموجب المادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف، وفي المقابل، يفرض القانون على سلطات الأمر الواقع مسؤوليات مباشرة في منع الانتهاكات والتحقيق فيها ومحاسبة مرتكبيها، وتيسير وصول المساعدات الإنسانية، وتقييد الإجراءات الأمنية بما لا يفضي إلى العقاب الجماعي أو الاعتقال التعسفي.
الأثر الإنساني الخفي
وراء الأرقام قصص يومية عن عائلات تخشى الطريق بين قريتين، وطلاب لا يبلغون مدارسهم، ومزارعين يتركون حقولا باتت مسرحا لزرع العبوات المتفجرة، وفي المستشفيات المحلية يتكرر مشهد الإصابة بشظايا ورصاص، وفي مخيمات النزوح يتسع القلق من عمليات انتقامية أو حملات أمنية واسعة لا تراعي الفروق بين المطلوب والجار، ويحذر العاملون الإنسانيون من أن كل انتكاسة أمنية تعني تعثرا في الإمدادات الطبية والغذائية، وأن أي تضييق على الحركة يرفع كلفة الوصول إلى الخدمات الأساسية، ويضاعف ذلك هشاشة النساء والأطفال، لا سيما في مناطق تقل فيها فرص العمل والتعليم وتتراجع فيها الثقة بين المجتمع والقوى الأمنية.
مطالب حقوقية
تدين المنظمات الحقوقية المحلية والدولية انتهاكات داعش بوصفها جرائم ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لكنها في الوقت نفسه تذكّر بأن مكافحة الإرهاب لا تبرر التفلت من الضوابط، وتحذر هذه المنظمات من مخاطر الاعتقال المطول بلا مراجعة قضائية، ومن محاكمات لا تراعي ضمانات العدالة، ومن القيود الجماعية على الحركة التي تلحق الضرر بمن لا صلة لهم بالهجمات، كما تدعو إلى شفافية في التحقيقات حول أي أذى مدني يقع خلال العمليات الأمنية أو العسكرية، وإلى جبر الضرر وتعويض الضحايا، وإشراك المجتمعات المحلية في صياغة خطط الحماية، وفق المفوضية السامية لحقوق الإنسان.
يذكر أنه منذ سقوط آخر جيوب داعش الجغرافية عام 2019، في سوريا، تبدلت بنية التنظيم من كيان يرفع راية الخلافة إلى شبكة خلايا تعتمد اللامركزية وتستثمر ظروف الاقتصاد الحربي والتنافس المحلي وقنوات التمويل غير النظامية، ففي البادية السورية استهدف التنظيم خلال السنوات الماضية قوافل عسكرية ومرافق خدمية لجهات متعددة، وفي شرق الفرات أعاد بناء شبكات بيعة محلية تمزج الترغيب بالترهيب، وتستغل اقتصاد التهريب والنفط البدائي، ومع كل تبدل سياسي أو أمني كبير في المشهد السوري كان التنظيم يجد فرصة جديدة لإعادة التموضع، وتؤكد تقارير مجلس الأمن ومراكز الأبحاث أن هذه القدرة على التكيّف، المدعومة بخبرة تراكمت على مدار عقد، تجعل مسار القضاء النهائي عليه رهنا بمقاربات طويلة الأمد تشمل العدالة وإصلاح القطاع الأمني والتنمية المحلية لا الحملات العسكرية وحدها.
مسارات مطلوبة للحد من التهديد
يعرف الفاعلون المحليون والدوليون أن الحرب على الخلايا لا تُحسم في الميدان فقط، فالمطلوب تحسين جمع المعلومات والتحقيقات الجنائية وإدارة مسارح الجريمة، وتعزيز الحماية على الطرق الحيوية وسلاسل التوريد، وتطوير فرق استجابة سريعة قادرة على المطاردة الدقيقة دون إلحاق أذى واسع بالمدنيين، وفي موازاة ذلك ينبغي الاستثمار في برامج نزع التطرف وإعادة التأهيل داخل السجون ولمن يغادرونها، وإطلاق مسارات قضائية تضمن المحاكمة العادلة وعدم الإفلات من العقاب على جرائم داعش الخطيرة.
أما ملف مخيم الهول وروج فبدون تسريع الإعادات إلى الأوطان لمن تنطبق عليهم الشروط، وتفكيك اقتصاد الظل داخل المخيمات، وتوفير التعليم والحماية للنساء والأطفال، سيبقى ورقة ابتزاز أمنية وإنسانية مفتوحة، ويستدعي ذلك شراكة أممية أوسع وتمويلا مستقرا، وفق وكالة الاتحاد الأوروبي للجوء.
وثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان منذ مطلع عام 2025 مئة وثلاثا وخمسين عملية لداعش في مناطق الإدارة الذاتية، تركزت منها مئة وثلاثون في دير الزور وثلاث عشرة في الحسكة وعشر في الرقة، وأسفرت عن مقتل خمسة وأربعين من مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية وحلفائها وثمانية من عناصر التنظيم وعشرة مدنيين ومتعاون واحد، إضافة إلى عشرات الجرحى.
ويشير التقرير العشرون للأمين العام للأمم المتحدة بشأن تهديد داعش وتقارير فريق الرصد التابع للجنة العقوبات إلى استمرار خطر الخلايا في سوريا ضمن مشهد إقليمي معقد، مع توصية بزيادة التعاون القضائي وتعزيز تجفيف التمويل ومراقبة تحركات المقاتلين الأجانب، وفي موازاة المشهد الأمني، يظل مخيم الهول في شمال شرق سوريا بؤرة إنسانية حساسة يضم عشرات الآلاف معظمهم نساء وأطفال يحتاجون إلى حلول مستدامة تشمل المحاسبة وإعادة التأهيل والإعادة إلى الأوطان، وتؤطر هذه الوقائع الالتزام بمبادئ القانون الدولي الإنساني وخاصة قاعدة التمييز وحماية المدنيين والضمانات الأساسية للمحتجزين.