أزمة حدودية تتفاقم.. حقوق الإنسان على المحك بين بانكوك وبنوم بنه
أزمة حدودية تتفاقم.. حقوق الإنسان على المحك بين بانكوك وبنوم بنه
في 15 أغسطس الجاري أطلقت اللجنة الكمبودية لحقوق الإنسان نداءً عاجلاً إلى وكالات الأمم المتحدة ورابطة دول جنوب شرق آسيا، متهمة القوات المسلحة التايلاندية بانتهاكات "خطيرة وغير قانونية" في مناطق حدودية متنازع عليها.
وحذرت الرسائل التي وجهت إلى كبار مسؤولي الأمم المتحدة والهيئات الحقوقية الإقليمية أن الوضع لم يعد مجرد خلاف حدودي تقليدي، بل تحول إلى أزمة إنسانية تهدد حياة المدنيين وأمنهم وسبل عيشهم.
بحسب ما جاء في الرسائل الكمبودية، توغلت قوات تايلاندية مسلحة في الرابع من أغسطس داخل الأراضي الكمبودية في منطقة آن سيس، حيث زرعت الأسلاك الشائكة ونشرت آليات لتطهير الأراضي.
وتكرر المشهد في 12 و13 أغسطس حين أقامت قوات شبه عسكرية تايلاندية حواجز من إطارات السيارات وأسلاكاً شائكة حول قريتين في مقاطعة بانتياي مينتشي، ما أدى إلى محاصرة منازل المدنيين وأراضيهم الزراعية.
وفي 14 أغسطس أوقفت مواجهة بين القوات الكمبودية والمواطنين من جهة والمراقبين العسكريين الدوليين من جهة أخرى عملية مماثلة قرب نقطة تفتيش بوينغ تراكون وفق شبكة “آسيان نيوز”.
معاناة إنسانية على الأرض
لجنة حقوق الإنسان الكمبودية وثّقت أوضاعاً وصفتها بـ"المأساوية"، حيث هاجرت العائلات قسراً، واستولى الجنود على المنازل والمزارع، ما أدى إلى فقدان مصادر العيش الأساسية. بالنسبة لسكان المناطق الحدودية، لم تكن الأسلاك الشائكة مجرد حواجز معدنية، بل جدران خانقة تفصلهم عن بيوتهم وأرضهم وتقطع صلتهم بالحياة اليومية.
ونقلت شهادات الأهالي صورة ليلية من الخوف، حيث يتحول صوت تحرك الآليات أو صرير المعدن إلى كابوس دائم يذكرهم بأن مصيرهم ليس بأيديهم.
اللجنة شددت على أن الإجراءات التايلاندية تمثل خرقاً واضحاً للاتفاقيات الدولية، فهي تنتهك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إضافة إلى اتفاقية حقوق الطفل واتفاقية جنيف الرابعة لعام 194، كما أنها تمثل تجاوزاً خطيراً لمذكرة التفاهم الثنائية الموقعة عام 2000، والتي أرست آلية لترسيم الحدود ومنع التصعيد بين كمبوديا وتايلاند.
النزاع الحدودي
الخلافات الحدودية بين كمبوديا وتايلاند تعود إلى عقود طويلة، خاصة في المناطق المحيطة بمعبد برياه فيهير المدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو، وقد شهدت هذه المنطقة مواجهات متكررة في العقدين الماضيين، سقط خلالها ضحايا مدنيون وعسكريون.
وفي يوليو 2025 وقّع الطرفان اتفاقاً لوقف إطلاق النار، أعقبه اجتماع للجنة الحدود المشتركة في أغسطس، وفق محاضر الاجتماعات الثنائية بين كمبوديا وتايلاند.
في رسائلها، طالبت لجنة حقوق الإنسان الكمبودية بتدخل عاجل من الأمم المتحدة وآسيان لإزالة جميع الأسلاك الشائكة والعوائق، وضمان إعادة الممتلكات والأراضي إلى أصحابها، كما دعت إلى فتح تحقيق مستقل يحدد المسؤوليات ويضمن المساءلة، ولم تكتف اللجنة بالمطالبة بالحقوق المدنية فحسب، بل جددت أيضاً مناشدتها للإفراج الفوري وغير المشروط عن 18 جندياً كمبودياً محتجزاً لدى تايلاند.
الموقف الحقوقي الأممي
رغم عدم صدور رد رسمي فوري من الأمم المتحدة أو آسيان، فإن المنظمات الحقوقية الدولية اعتادت متابعة مثل هذه الأزمات بقلق بالغ، فالمفوضية السامية لحقوق الإنسان شددت في مواقف سابقة على أن استخدام الأسلاك الشائكة لعزل المجتمعات المحلية يمثل انتهاكاً للقانون الإنساني الدولي، خاصة إذا ترتب عليه تهجير السكان أو تقييد وصولهم إلى الغذاء والأراضي الزراعية، كما دعت منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية إلى ضمان عدم استغلال النزاعات الحدودية للانتقاص من الحقوق الأساسية للمدنيين.
وفق تحليلات خبراء في شؤون آسيان والعلاقات الإقليمية فإن الأزمة الحالية تضع رابطة دول جنوب شرق آسيا أمام اختبار صعب، فالمبدأ التقليدي للمنظمة القائم على "عدم التدخل" غالباً ما يقيّد قدرتها على حل نزاعات بين الدول الأعضاء، لكن حجم الانتهاكات الموثقة هذه المرة قد يجبر آسيان على إعادة النظر في أدواتها، خاصة مع خطورة استمرار الأزمة على الاستقرار الإقليمي وسمعة المنظمة أمام المجتمع الدولي.
بين بنوم بنه وبانكوك يتواصل الشد والجذب حول شريط حدودي يتحول تدريجياً إلى خط مواجهة إنسانية، المدنيون هم الخاسرون في لعبة الأسلاك الشائكة، حيث تُنتزع حياتهم اليومية من جذورها، وتُختزل حقوقهم إلى رسائل استغاثة تنتظر آذاناً مصغية في نيويورك وجنيف وجاكرتا.
نزاع يعود إلى عقود طويلة
النزاع الحدودي بين كمبوديا وتايلاند ليس وليد اللحظة، بل تعود جذوره إلى عقود طويلة، وبرز بشكل خاص حول منطقة معبد برياه فيهير، الذي حكمت محكمة العدل الدولية عام 1962 بأحقيته لكمبوديا رغم هذا الحكم، ظلت المناطق المحيطة بالمعبد محل خلاف دائم.
وتصاعد التوتر بشكل ملحوظ بين عامي 2008 و2011 عندما اندلعت اشتباكات عسكرية متكررة أسفرت عن مقتل عشرات الجنود والمدنيين وتشريد مئات العائلات، خلال تلك الفترة، تحولت المنطقة إلى بؤرة توتر دائمة، حيث تبادل الطرفان الاتهامات بخرق السيادة.
و لجأت كمبوديا إلى الأمم المتحدة طلبا للتدخل، تلك الأحداث التاريخية شكلت خلفية مستمرة للنزاع الحالي، وجعلت قضية ترسيم الحدود ملفا سياسيا حساسا يطفو إلى السطح مع كل أزمة جديدة.