80 مليار يورو ثمناً للغياب.. كيف تحولت الإجازات المرضية إلى أزمة وطنية في ألمانيا؟
80 مليار يورو ثمناً للغياب.. كيف تحولت الإجازات المرضية إلى أزمة وطنية في ألمانيا؟
وصلت نفقات أرباب العمل على غياب الموظفين المرضى في ألمانيا إلى نحو 82 مليار يورو في عام 2024 بحسب دراسة معهد الاقتصاد الألماني في كولونيا المنشورة الخميس، وهي زيادة بـ 10مليارات خلال ثلاثة أعوام وتعادل أكثر من ضعفي المستوى المسجل عام 2010 وفق وكالة الأنباء الألمانية.
هذا الرقم يضم استمرار دفع الأجور في فترات المرض إلى جانب حصة أصحاب العمل من اشتراكات الضمان الاجتماعي، ويعكس مزيجا من ارتفاع الأجور واتساع التوظيف وتزايد أيام الغياب المرضي منذ قرابة عقدين.
وحولت هذه القفزة المالية ملف المرض في مواقع العمل إلى قضية اقتصادية واجتماعية ملحة في ألمانيا تتجاوز حسابات أرباب العمل إلى أسئلة عن كفاءة منظومة الحماية والوقاية في بلد يرتكز اقتصاده على قوة العمل الماهرة.
قواعد الحماية
يرتكز النظام القانوني في ألمانيا على مبدأ استمرار دفع الأجر عند المرض لمدة ستة أسابيع كحد أقصى لكل حالة مرضية متصلة يدفعها صاحب العمل كاملة، ثم ينتقل الحق إلى بدل المرض الذي تقدمه شركات التأمين الصحي القانونية بنسبة تصل إلى 70% من الدخل الإجمالي وبسقف لا يتجاوز 90% من صافي الراتب.
ويمكن أن يستمر هذا الحق حتى 78 أسبوعا خلال ثلاث سنوات للمرض نفسه، الإطار يحاول الموازنة بين استقرار دخل العامل وتمكينه من التعافي وبين عدم تحميل الشركات أعباء مفتوحة زمنيا.
ويجري النقاش حاليا حول مقترحات تحد من الأعباء على أرباب العمل مثل تعليق الدفع في الأيام الأولى أو تقصير فترة الإلزام، وهي مقترحات تدفع في المقابل نقابات العمال إلى التذكير بأن هذه الحماية ليست منحة بل حقا اجتماعيا راسخا في منظومة تأمينات مولت تاريخيا عبر اشتراكات مشتركة.
المرض في مواقع العمل
تكشف بيانات الصناديق الصحية واتحادات شركات التأمين في ألمانيا أن عام 2023 سجل مستويات استثنائية من الغياب، مع استمرار أثر موجات العدوى التنفسية وتراكم الحالات المزمنة ومؤشرات متصاعدة للصحة النفسية والاضطرابات العضلية الهيكلية.
ورغم تراجع طفيف في عام 2024 تبقى المستويات عالية تاريخيا وفق تقارير الهيئات التمثيلية للصناديق التي رصدت معدلا يوميا مرتفعا للغياب في النصف الأول من العام.
ش أما تقارير شركات التأمين الصحي الكبرى فتشير إلى ارتفاع عدد الأيام المفقودة لكل مؤمّن عليه مقارنة بما قبل الجائحة، بما يصعّب على إدارات الموارد البشرية ضبط التخطيط للورديات وسلاسل الإمداد داخل المصانع والخدمات.
هذه الصورة تشي بأن المرض لم يعد حدثا عارضا بل ظاهرة ذات طابع بنيوي تتداخل فيها عوامل ديموغرافية وسلوكية وتنظيمية.
الأسباب المركبة للظاهرة
تتقدم الشيخوخة السكانية كعامل مفسر لزيادة الغياب، فمتوسط أعمار القوة العاملة يرتفع، ومعه ترتفع أمراض المزمنة وتكلفة التعافي.
ويضاف إلى ذلك التحول في أنماط العمل بعد الجائحة من العمل الهجين إلى العمل عن بعد وما يصاحبه أحيانا من إجهاد رقمي وقلة حركة بدنية وبيئات منزلية غير مهيأة، كما تلعب الضغوط الإنتاجية دورا في تفاقم مشكلات الجهاز العضلي والهيكل العظمي، في حين تكشف تقارير صناديق التأمين عن قفزة في تشخيصات القلق والاكتئاب وما يرتبط بها من فترات تعافٍ أطول.
وفي قطاعي الرعاية والصناعات التحويلية تحديدا تتراكم نوبات الغياب في مواسم العدوى الشتوية بما يرفع احتمالات العدوى المتبادلة ويزيد من تدوير المناوبات، وهو ما يعيد إنتاج المشكلة نفسها في دوامة يصعب كسرها دون تدخل وقائي منظم.
ردود أفعال متباينة
على الضفة الاقتصادية ينطلق نقاش أرباب العمل في ألمانيا من أرقام المعهد التي تضع ثقل العبء في واجهة القرار، ويطرح بعضهم أدوات لخفض الكلفة مثل تأجيل دفع الأجر لبضعة أيام أو وضع سقف سنوي جامع بغض النظر عن تغيّر التشخيص.
وفي المقابل، تؤكد اتحادات نقابية أن أي مساس بفترة الستة أسابيع سيحوّل العبء إلى الأسر الأضعف ويقوّض وظيفة التأمين الاجتماعي بوصفه شبكة أمان ضد المخاطر التي لا يتحملها الفرد وحده، وتنبه النقابات إلى أن خفض الحماية لا يعني تلقائيا خفض الغياب بل قد يدفع إلى الحضور الإجباري في أثناء المرض وما يرافقه من عدوى وإطالة لفترات التعافي، وهو ما يزيد الكلفة الإجمالية بدل تخفيضها.
كما يدعو خبراء الصحة المهنية إلى الاستثمار في الوقاية داخل أماكن العمل، من التهوية الجيدة في الشتاء إلى تصميم محطات العمل بما يقلل إصابات الإجهاد، مروراً ببرامج الدعم النفسي المبكر وخدمات الإرشاد.
مرجعية الحق الاجتماعي
يستند الحق في الرعاية عند المرض إلى معايير منظمة العمل الدولية التي رسخت في اتفاقية الرعاية الطبية واستحقاقات المرض رقم 130 مبدأ الحماية الكافية للدخل أثناء العجز المؤقت، فيما تؤكد اتفاقية الحد الأدنى للضمان الاجتماعي رقم 102 حق العمال في تغطيات أساسية عند المرض.
وقد صادقت ألمانيا على هذه الصكوك وأقامت منظومة تأمين قانوني واسعة القاعدة، ما يجعل أي تعديل تشريعي خافضا للضمانات محكوما بمراجعة التوافق مع تلك الالتزامات الدولية.
ويضاف إلى ذلك التوجيهات الأوروبية ومبادئ الركيزة الأوروبية للحقوق الاجتماعية التي تجعل الاستحقاقات المرضية جزءا من بيئة العمل اللائقة، ويمنح هذا الإطار الحقوقي النقاش الوطني أبعادا تتخطى الموازنة المالية إلى معايير الإنصاف والكرامة في علاقة العمل.
الأثر الإنساني خلف الأرقام
وراء الكلفة المليارية قصص يومية لموظفين يوازنون بين احتياجات العلاج وواجبات الأسرة وارتفاع تكاليف المعيشة، حين يمرض الأب أو الأم لأسابيع طويلة تتراجع القدرة على سداد الإيجار أو أقساط الرعاية، ويصبح بدل المرض الأقل من الراتب الكامل ضغطا محسوسا في ميزانيات الأسر ذات الدخل المتوسط.
وفي الشركات الصغيرة والمتوسطة يتوزع عبء الغياب على فرق عمل محدودة العدد، ما يضاعف الإرهاق ويزيد احتمالات الوقوع في دوائر مرضية متكررة، ومن منظور الصحة العامة يعني الحضور القسري في أثناء العدوى المزيد من الإصابات داخل مواقع العمل، ومعها تتوسع دائرة المتأثرين، لذلك تمثل الوقاية والمرونة في تنظيم العمل خيارين إنسانيين قبل أن يكونا اقتصاديين.
وتوضح بيانات اتحادات صناديق التأمين أن عام 2024 شهد معدلا يوميا للغياب لا يزال فوق مستويات ما قبل الجائحة رغم بعض التراجع مقارنة بذروة العام السابق له، وتشير تقارير شركات التأمين الصحي إلى استمرار ارتفاع عدد الأيام المفقودة لكل مؤمّن عليه، خصوصا في التشخيصات التنفسية والاضطرابات النفسية والعضلية الهيكلية.
وعلى مستوى الناتج والإنتاجية، تنعكس هذه الاتجاهات في تكاليف مباشرة لبدائل العمل وساعات إضافية، وتكاليف غير مباشرة في تعطل خطوط الإنتاج وتأجيل الطلبات وضعف جودة الخدمة، وهذه الخريطة الإحصائية تفسر كيف وصلت الفاتورة الكلية إلى المستوى القياسي الأخير.
مقاربات لتخفيف العبء
تجمع تجارب السياسات المقارنة على أن الطريق الأقصر لخفض الكلفة يمر عبر تقليل وقوع المرض وطول فترته لا عبر تقليص الحماية، وذلك يشمل خطط وقاية موسمية ضد العدوى، وبرامج تعزيز اللياقة البدنية في أماكن العمل، وتكييف محطات العمل للحد من إصابات الظهر والرقبة، وتوسيع خدمات الصحة النفسية المبكرة، كما يوصي خبراء الإدارة الصحية بدعم سياسات إعادة الدمج التدريجي بعد المرض طويل الأمد بما يسمح بالعودة الجزئية إلى العمل وفق خطة طبية تعيد بناء القدرة الوظيفية وتقلل احتمالات الانتكاس.
وعلى المستوى التنظيمي يمكن لتخطيط المناوبات الذكي وتقنيات الجدولة أن يخففا من ظاهرة الإرهاق، بينما تسهم ترتيبات العمل المرنة في تقليل الحضور القسري عندما تكون الأعراض معدية أو طفيفة، وتتطلب هذه السياسات شراكة بين أرباب العمل والنقابات وشركات التأمين عبر حوافز مالية مرتبطة بمؤشرات الوقاية وبرامج التدريب.
يبقى التحدي في صياغة معادلة تحفظ متانة الاقتصاد وقدرة الشركات على المنافسة دون تقويض الحق الاجتماعي في الحماية عند المرض، الأرقام القياسية توجب محاسبة دقيقة لجدوى كل أداة إصلاحية وتقييم آثارها الاجتماعية، لكن المرجعيات القانونية والاتفاقية تؤكد أن كرامة العامل وسلامته ليست بندا قابلا للمقايضة.
ويسند هذا المبدأ واقع أن الاستثمار في الوقاية وجودة بيئة العمل يحقق عائدا اقتصاديا عبر خفض الغياب وتحسين الإنتاجية واستبقاء المهارات، وهو طريق أكثر استدامة من اختزال الحماية، وبين ضغوط الميزانيات وحقوق العاملين تبدو ألمانيا أمام فرصة لتحديث سياساتها الصحية المهنية بما يوازن بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، مستفيدة من ثراء بيانات الصناديق والخبرة المتراكمة في أنظمة التأمين والتوافق الوطني على قيمة العمل اللائق.