حين يتحول الغذاء إلى سلاح.. أين يقف القانون الدولي من جرائم التجويع في غزة؟
حين يتحول الغذاء إلى سلاح.. أين يقف القانون الدولي من جرائم التجويع في غزة؟
للمرة الأولى منذ عقود يصدر تصنيف أممي مدعوم يعلن وقوع مجاعة في غزة، فقد أكد التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي أن المجاعة وقعت بالفعل في مدينة غزة ومحيطها، مع تحذير من اتساع رقعتها خلال الأسابيع المقبلة، وأن أكثر من نصف مليون إنسان يواجهون ظروفا كارثية من الجوع وسوء التغذية والموت، ولا يقتصر هذا الإعلان على كونه توصيفا إنسانيا للوضع، بل يرتب ضغوطا قانونية وسياسية مباشرة لضمان وصول الغذاء والدواء بلا عوائق، ويشكّل مرجعا موضوعيا لأي تحقيقات جنائية لاحقة.
يحظر القانون الدولي الإنساني استخدام التجويع وسيلةً في النزاعات المسلحة حيث تنص المادة الرابعة والخمسون من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977 على حظر تجويع المدنيين ومنع مهاجمة أو تدمير أو تعطيل المقومات الضرورية لبقائهم مثل الغذاء والمياه والمحاصيل وأعمال الري إذا كان الغرض حرمان السكان منها، وينص البروتوكول الإضافي الثاني، المادة الرابعة عشرة، على المبدأ ذاته في النزاعات غير الدولية، وتؤكد قواعد العرف الدولي التي جمعها الصليب الأحمر أن تجويع المدنيين محظور وأن السماح بوصول الإغاثة واجب، مع حماية العاملين الإنسانيين وحرية حركتهم.
الجريمة في نظام روما والولاية الجنائية
يجرم نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية استخدام التجويع وسيلةً من وسائل الحرب من خلال حرمان المدنيين من الأشياء الضرورية لبقائهم، بما في ذلك عرقلة الإمدادات الإغاثية عمدا، وقد أضيف هذا التجريم صراحة إلى النزاعات غير الدولية عام 2019، بما يوسع دائرة التجريم ويغطي معظم أنماط الحروب المعاصرة، كما يدرج النظام ضمن الجرائم ضد الإنسانية جريمة الإبادة عندما تتضمن فرض أحوال معيشية مثل الحرمان من الطعام والدواء بقصد إهلاك جزء من السكان. وهذه النصوص توفر إطارا قانونيا مباشرا لمساءلة من يضع السياسات أو يصدر الأوامر أو ينفذها على المستويات السياسية والعسكرية والميدانية.
قرار مجلس الأمن 2417 ومسؤولية الدولة
في مايو 2018 تبنى مجلس الأمن القرار 2417 الذي أدان تجويع المدنيين كأسلوب حرب وطالب جميع الأطراف بحماية السلع الأساسية لبقاء السكان وبالسماح بوصول المساعدات دون عوائق، وهدد باتخاذ تدابير مناسبة ضد المنتهكين، بما في ذلك إجراءات جزائية فردية، ويربط القرار للمرة الأولى بين أنماط التجويع والصراع المسلح وإمكانية فرض عقوبات محددة الهدف على المسؤولين.
من الناحية الإجرائية، تشكل تقارير الأمم المتحدة والهيئات المستقلة والوكالات الإنسانية دلائل مرجعية يعتمد عليها المدعون والقضاة في إثبات عنصر التعمد وعرقلة الإغاثة، وفي سابقة ذات مغزى في سياق غزة، أصدرت الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية في نوفمبر 2024 مذكرات توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين وحملت لائحة الادعاء بينهم تهمة استخدام التجويع باعتباره جريمة حرب، ما يكرس قابلية هذا الملف للملاحقة الجنائية الدولية، كما واصلت غرفة الاستئناف في 2025 النظر في نطاق الولاية مع إبقاء التحقيق قائما.
التزامات أطراف النزاع
لا ينشئ إعلان المجاعة التزامات جديدة بقدر ما يفعّل التزامات قائمة بموجب القانون الدولي الإنساني والعرفي، بأنه على أطراف النزاع حماية المدنيين، ومنع استخدام التجويع وسيلة ضغط، والامتناع عن استهداف أو تعطيل الموارد الضرورية للبقاء، وتمكين وصول الإغاثة بشكل آمن ودون تأخير، وتأمين حرية الحركة للعاملين الإنسانيين.
ويشكل أي تعطيل ممنهج أو رفض إداري أو هجمات على القوافل أو نقاط التوزيع انتهاكا جسيما قد يرقى إلى جريمة حرب بموجب نظام روما، ويشمل نطاق المسؤولية القيادات السياسية والعسكرية ومخططي السياسات ومنفذيها.
أكدت محكمة العدل الدولية في أوامرها بالتدابير المؤقتة في قضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أن على إسرائيل اتخاذ خطوات فورية لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية ومنع الأعمال التي قد تسهم في خطر الإبادة، ومنحت وزنا خاصا لمؤشرات الجوع وسوء التغذية بوصفها دليلا على المخاطر الجسيمة على حق السكان في الحماية، وهذه الأوامر لا تحسم المسؤولية الجنائية لكنها توفر سندا قانونيا ملزما لتوسيع الممرات الإنسانية ورفع القيود وتسهيل وصول الوقود والغذاء والدواء.
أرقام توثق اتساع الانتهاكات
تزامن إعلان المجاعة في قطاع غزة مع تزايد تقارير أممية وحقوقية عن قتل مدنيين أثناء السعي للحصول على الغذاء، فقد أفاد مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان بأن ما لا يقل عن 798 مدنيا لقوا حتفهم منذ أواخر أيار 2025 عند نقاط توزيع المساعدات أو على طرق القوافل، وتضيف منظمات حقوقية أن نمط إطلاق النار قرب مواقع التوزيع يرقى إلى انتهاكات جسيمة وقابلة للتجريم كجرائم حرب.
مواقف المنظمات الأممية والحقوقية
أكدت وكالات الأمم المتحدة والجهات الشريكة أن التجويع في غزة ظاهرة صنعتها السياسات وليست كارثة طبيعية، وأشار التصنيف الأممي إلى أن العوائق والقيود المفروضة على دخول الإمدادات سبب مباشر في تسارع المجاعة، فيما شددت أونروا على أن وقف المجاعة ممكن فورا إذا سُمح بإدخال كميات كافية من المساعدات، وأن لديها مخزونات جاهزة في الأردن ومصر تكفي لآلاف الشاحنات، كما وثقت منظمات مثل هيومن رايتس ووتش وأمنستي نمطا من عرقلة المساعدات وإطلاق النار قرب نقاط التوزيع، واعتبرت ذلك استخداما ممنهجا للتجويع كأداة حرب وربطت بعض التقارير بين هذا النمط وجرائم ضد الإنسانية.
ما الذي يلزم قانونا الآن؟
يقتضي الإطار القانوني القائم جملة إجراءات فورية على الأرض، تشمل رفع أي قيود تمنع تدفق الإغاثة عبر المعابر البرية باعتبارها القناة الأكثر فاعلية، والسماح بالوصول الآمن ومنتظم للمساعدات إلى جميع المناطق المتضررة، بجانب حماية نقاط التوزيع ومنع تموضع عسكري حولها، والتحقيق في جميع حوادث إطلاق النار على المدنيين عند طلب الغذاء ومحاسبة المسؤولين، وكذلك إنشاء آليات مراقبة مستقلة لقياس وصول الإمدادات وتحديد العوائق الإدارية واللوجستية ورفعها، بالإضافة إلى تمكين الوكالات الأممية والشركاء المحليين من العمل وفق آليات التنسيق الإنسانية المعترف بها دوليا وليس عبر قنوات بديلة مسيّسة ثبت عدم جدواها وارتفاع كلفتها وخطورتها، وهذه الالتزامات لا تحتاج إلى قرارات إضافية كي تصبح نافذة، إذ إنها مستمدة من نصوص ملزمة وعرف راسخ وقرارات مجلس الأمن.
عمليا، تتعدد مسارات المساءلة، فإلى جانب الاختصاص القائم للمحكمة الجنائية الدولية، يمكن للدول أن تلجأ إلى الولاية القضائية العالمية لملاحقة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية عندما يتعذر التقاضي محليا، وقد شهد عام 2025 تحركات قضائية في أوروبا بشأن قضايا حصار وتجويع في نزاعات أخرى، بما يكرس قابلية هذا النوع من الجرائم للملاحقة خارج مسرح النزاع، بينما يستمر الجدل الحقوقي حول بطء فتح تحقيقات هيكلية تتعلق بغزة وفاعلية هذا المسار.
دروس من سوابق الجوع في النزاعات
أبرز قرار مجلس الأمن 2417 واستدعاؤه في أزمات مثل اليمن وتيغراي والصومال أن التجويع ليس نتيجة عرضية للحرب، بل نتيجة سياسات وسلوكيات قابلة للتغيير وللمساءلة، وهذه السوابق كرست مبدأ الربط بين جمع الأدلة الميدانية من وكالات الإغاثة وآليات التحقيق الدولية، واستحداث عقوبات فردية على من يعرقل الإغاثة أو يستهدف البنى الأساسية للحياة، وفي الحالة الراهنة، يوفر إعلان المجاعة مرجعا فنيا موحدا للوقائع، يسهل معه إثبات عناصر الجريمة إن توافرت نية حرمان المدنيين من مقومات بقائهم أو تعمد عرقلة الإغاثة.
الحق في الغذاء
إلى جانب القانون الإنساني، يكفل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الحق في مستوى معيشي كافٍ بما في ذلك الغذاء، وبالنظر إلى أن غالبية سكان غزة يعيشون في ظروف حصار ونزوح قسري ودمار واسع النطاق للبنية الأساسية، يصبح الوفاء بالحد الأدنى الأساسي من هذا الحق مسؤولية مشتركة، ويترتب على أي طرف يسيطر فعليا على الأرض واجب عدم الإضرار ومنع التجويع وتمكين الإغاثة، وتتعزز هذه الالتزامات مع أوامر محكمة العدل الدولية التي شددت على منع الأفعال التي تفاقم خطر الإبادة وضرورة تمكين وصول المساعدات.
تشير أحدث المعطيات إلى أن المعيقات اللوجستية والإدارية والقيود الأمنية على دخول المساعدات لا تزال قائمة على نطاق واسع، وأن أثرها المباشر انعكس في وفيات أثناء البحث عن الطعام وفي مؤشرات سوء التغذية الحاد بين الأطفال والحوامل والمرضعات، وتؤكد منظمات حقوقية أن المنظومة الحالية لتوزيع المساعدات داخل غزة أثبتت قصورا جسيما، بل وأسهمت في تعريض المدنيين للخطر، ما يعيد التذكير بأن الحل القانوني والإنساني الوحيد لدرء المجاعة يتمثل في فتح المعابر وإزالة القيود وتمكين الوكالات الأممية وشركائها المحليين من العمل وفق المعايير المعتمدة.