بين الضغوط المالية والحماية الاجتماعية.. ما تداعيات إصلاحات نظام المساعدات الألمانية على الفئات الهشة؟
بين الضغوط المالية والحماية الاجتماعية.. ما تداعيات إصلاحات نظام المساعدات الألمانية على الفئات الهشة؟
أطلق المستشار الألماني فريدريش ميرتس مؤخرا تحذيراً علنياً مفاده أن نموذج دولة الرفاه كما هو قائم لم يعد قابلاً للتمويل مع ما رافق ذلك من دعوات لتعديل قوانين المساعدات الاجتماعية وإعادة النظر في آليات دفع وتعويضات وبدلات السكن، في خطوة فتحت جدلاً سياسياً واجتماعياً واسع النطاق داخل ألمانيا.
هذه المعركة حول ميزانية الضمان الاجتماعي ليست مجرد نقاش تقني ولكن هي نقاش حول من يتحمل عبء الأزمات الاقتصادية والديموغرافية، وكيف توازن الدولة بين حماية من هم في أمسّ الحاجة وإجبار الاقتصاد على التحرك.
ضغوط مالية واقتصادية وديموغرافية
تتعدد الأسباب التي تستدعي نقاشات الإصلاح بين تراجع النمو واقتراب أرقام البطالة من مستويات أعلى مما كانت عليه قبل الأزمة، وارتفاع أعداد المستفيدين من المساعدات الأساسية (الذين تُقدّر أعدادهم بنحو 5.5 مليون متلقٍ لبدل المواطن بحسب تقارير مستقلة)، بالإضافة إلى زيادة الإنفاق الحكومي على برامج دعم متعددة خلال الأعوام الأخيرة، بما في ذلك استقبال لاجئين وأعباء مرتبطة بتبعات التضخم وفق "هيومن رايتس ووتش".
من جانب الإنفاق، أظهرت تقارير متابعة أن مصروفات Bürgergeld بلغت مبالغ كبيرة خلال الفترة الأخيرة، ما دفع إلى الحديث عن آليات لخفض النفقة الحكومية عبر مراجعة قواعد احتساب بدلات السكن والقيود على بعض المزايا، وفي المقابل، يشير الجهاز الإحصائي ووكالات العمل إلى أن سوق العمل في ألمانيا ما زال تحت ضغط، مع معدلات بطالة متذبذبة حول نسبة تتراوح حول 6.3 في المئة، ما يجعل خفض شبكات الأمان الاجتماعي مجازفة على الفئات الضعيفة.
المحور السياسي
على المستوى السياسي، يضغط المستشار ميرتس وحلفاؤه لصياغة إصلاحات جوهرية تشمل فرض سقوف على تعويضات السكن وتضييق شروط الاستفادة وتعزيز آليات الرقابة ضد السوء والاستغلال، فيما تصرّ قيادات حزبية أخرى ووزيرة العمل على ضرورة موازنة أي تغييرات مع ضمان حماية العائلات والأطفال والمسنين.
الحكومة أعلنت تشكيل لجان وخطط عمل لوضع مقترحات نهائية، فيما توجَّه النقاش نحو ما إذا كانت الإصلاحات ستحقق وفورات كبيرة أم أنها قد تؤدي إلى تفاقم الفقر والاعتماد على برامج طوارئ محلية.
أبعاد اجتماعية وإنسانية.. من يتأثر وكيف؟
الإصلاحات المقترحة قد تؤثّر على مجموعات محددة مثل أسر الأطفال، وكبار السن الذين يعتمدون على تكاملات معاشاتهم، والعاطلون عن العمل، وسلطت منظمات حقوق الإنسان ونشطاء المجتمع المدني في ألمانيا الضوء على أن مستوى معظم البدلات والمعونات الحالية يظل دون الحدود الكافية لتأمين معيشة كريمة، وأن أي تشديد قد يزيد من عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر، وقد نوّه تقرير لمنظمة حقوقية إلى وجود تأثيرات جنسانية وفئوية للمخصصات الاجتماعية وأشار إلى هشاشة نظام الحماية بالنسبة للنساء العازبات وكبار السن.
ردود فعل المنظمات والهيئات
منظمات حقوقية دولية حذّرت من أن خطط إعادة تشديد شروط المساعدات قد تفضي إلى ردة ضد مكتسبات الحماية الاجتماعية، ودعت إلى حلول تراعي الحق في مستوى معيشة لائق، فيما عبرت الاتحادات العمالية في ألمانيا (مثل ver.di) عبّرت عن قلقها من أن سياسات العودة إلى عقوبات أشد على المستفيدين تشكّل تراجعاً عن الإصلاح الذي أدخل على نظام المعونات الاجتماعية، محذّرة من إعادة ممارسات سابقة حملت آثاراً سلبية على أدنى الفئات.
وفي المقابل، أصوات أصحاب العمل ورؤساء مؤسسات دعمت تقليص الفساد وإصلاح آليات الصرف لتحقيق كفاءة أكبر، وشددت رابطة المؤسسات الاجتماعية الكبرى (Diakonie) بدورها على أن أي انفصال بين إصلاحات البيروقراطية والحوكمة وبين إشراك منظمات الرفاه سيولّد حملة تخويف وأن الحلول تحتاج إلى ثقة ومشاركة الجهة المعنية بالخدمة.
أي تغييرات على نظام الضمان في ألمانيا تُقاس أيضاً بالمعايير الدولية، فبرلين طرف في معاهدات تؤكد حق الأفراد بالحد الأدنى من المعيشة والضمان الاجتماعي، وقد دعت منظمات حقوقية الحكومة إلى تصميم إجراءات تحترم هذه الالتزامات، وتجنّب سياسات قد تُعرّض الدولة لانتقادات في لجان حقوق الإنسان الدولية، كما أنها طالبت بأن تُرفق أي تغييرات بضمانات فعالة لحماية الفئات الأضعف.
خيارات سياساتية مقترحة
بحسب بيانات وتقارير خبراء هناك عدة مسارات ممكنة للتعامل مع الضغوط تشمل إصلاحات تستهدف تحسين كفاءة الإدارة وتقليل الفساد، دون خفض الدعم الأساسي، وتحسين سياسات الإدماج والتأهيل المهني لخفض الاعتماد طويل الأمد على المعونات، بجانب خفض النفقات غير المستهدفة وزيادة الاستثمار في التدريب والبنية التحتية التي تخلق وظائف، إضافة إلى سياسات ضريبية أكثر عدالة تستهدف الدخول العالية وثروات الشركات بدلاً من تحميل الفقراء عبء الترشيد، وتبرز تقارير اقتصادية وأبحاث ميدانية أن مزيجاً من هذه الحلول يحقق أثرًا أفضل من سياسات تقشف فورية
وبحسب مراقبين فإن أزمة إعادة النظر في منظومة الضمان الاجتماعي في ألمانيا تختصر سؤالين مرتبطين: كيف تحفظ الدولة شبكات الأمان الاجتماعي في مواجهة ضغط الميزانية والشيخوخة والنفقات الجديدة، وكيف تضمن أن تُدار الإصلاحات بشفافية وعدالة بحيث لا تُحمل الفئات الضعيفة عبء التكيف الاقتصادي؟ الأجوبة ستعكس أولوية الحكومة في الاختيار بين تقشف سريع أم إصلاح بنيوي يوازن بين كفاءة الإنفاق وكرامة المواطنين.
يذكر أن نموذج دولة الرفاه الألمانية تطور منذ القرن العشرين ليشمل أنظمة التقاعد والصحة والضمان الاجتماعي، و خلال العقود الأخيرة أدخلت إصلاحات كبرى (مثل حزمة هارتز في العقد الأول من الألفية) ثم استُبدِل دعم Hartz IV في 2023 بنظام Bürgergeld بهدف تقليل العقوبات وتوسيع الدعم التأهيلي، وفي السنوات الأخيرة زادت أعداد المستفيدين لأسباب منها تداعيات الجائحة، وموجات لجوء، وارتفاع التضخم، بجانب مؤشرات سوق العمل الراهنة التي تفيد بأن معدلات البطالة تدور حول 6.3 بالمئة ووجود ملايين العاطلين وهو ما يشكل ضغطاً على بنود الإنفاق الاجتماعي.