بين الحرية والرقابة.. أزمة حجب منصات التواصل تثير أزمة شعبية في النيبال
بين الحرية والرقابة.. أزمة حجب منصات التواصل تثير أزمة شعبية في النيبال
شهدت العاصمة النيبالية كاتماندو خلال الأيام الأخيرة واحدة من أكبر موجات الاحتجاج الشعبي منذ سنوات، على خلفية قرار الحكومة حجب غالبية منصات التواصل الاجتماعي، بما في ذلك فيسبوك وإكس ويوتيوب، وفجّر القرار الذي بررته السلطات بعدم امتثال نحو 24 منصة رقمية لمتطلبات التسجيل والخضوع للقوانين المحلية أزمة تتجاوز البعد التقني لتضع البلاد أمام مواجهة مفتوحة بين جيل شاب يرى في المنصات فضاءً للتعبير والهوية، وحكومة تسعى إلى فرض رقابة أشد على المجال الرقمي تحت مظلة السيادة والأمن القومي.
بحسب ما ذكرته وكالة الأنباء الألمانية، الاثنين، أعلنت الحكومة النيبالية أن الخطوة جاءت بعد سلسلة من الإخطارات غير المستجابة إلى الشركات المشغلة، تطالبها بالتسجيل الرسمي والالتزام بالقوانين الوطنية، غير أن مراقبين يشيرون إلى أن القضية ليست مجرد خلاف إداري، بل تعكس اتجاهاً متنامياً لدى الحكومة لتعزيز سلطاتها على الفضاء الرقمي في ظل تصاعد الانتقادات الشعبية حول الفساد والشلل السياسي، هذا التوجه يتزامن مع توترات اجتماعية واقتصادية، حيث يعاني ملايين النيباليين من البطالة والهجرة، فيما تزداد أهمية المنصات الرقمية كمساحة للتنظيم المجتمعي والاحتجاج.
تداعيات اجتماعية وسياسية
خرج عشرات الآلاف إلى الشوارع، معظمهم من جيل "زد" الذي ولد بين عامي 1995 و2010، في مشهد حمل رمزية قوية عن الهوة بين السلطة والأجيال الجديدة، وردد المحتجون شعارات ربطت بين مكافحة الفساد وضمان حرية التعبير، معتبرين أن الحجب استهداف مباشر لحقهم في التنظيم والتواصل، وواجهت قوات الأمن هذه المظاهرات باستخدام الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه، بينما فرضت السلطات حظر تجوال في محيط البرلمان والقصر الرئاسي، مما زاد من حدة التوتر.
وأثارت الإجراءات انتقادات واسعة من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، فقد وصفت منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية" الحجب بأنه انتهاك صارخ لحرية التعبير المكفولة بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي تعد نيبال طرفاً فيه، كما حذرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان من أن استخدام الرقابة الجماعية على الإنترنت بحجة التنظيم يتعارض مع المعايير الدولية، مشددة على ضرورة أن تكون أي قيود مفروضة على حرية التعبير ضرورية ومتناسبة وليست شاملة أو جماعية.
وتنص المواثيق الدولية، بما في ذلك المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، على حق الأفراد في التماس وتلقي ونقل المعلومات عبر أي وسيلة، وقد سبق للمقررين الخاصين للأمم المتحدة أن أدانوا حجب الإنترنت أو منصات التواصل باعتباره شكلاً من أشكال العقوبة الجماعية التي تؤثر على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى جانب الحقوق المدنية. وفي هذا السياق، يُنظر إلى قرار نيبال على أنه اختبار لمدى التزامها بتعهداتها الدولية.
البعد الاقتصادي
تتعدى الأزمة حدود السياسة والحقوق لتطول الاقتصاد المحلي، حيث تعتمد قطاعات واسعة من الشباب على منصات التواصل للعمل الحر والتسويق الرقمي، ووفقاً لبيانات البنك الدولي، يعتمد أكثر من 30% من الشركات الصغيرة في نيبال على وسائل التواصل الاجتماعي كقناة أساسية للوصول إلى العملاء، ويُقدّر خبراء أن الحجب قد يؤدي إلى خسائر بملايين الدولارات، مع تراجع فرص العمل وعرقلة التحويلات المالية الإلكترونية التي تمثل شرياناً أساسياً للاقتصاد.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تلجأ فيها السلطات في نيبال إلى تقييد الإنترنت، ففي أعقاب الاضطرابات السياسية عام 2015، استخدمت الحكومة إجراءات مشابهة بحجة "الأمن الوطني"، لكن تصاعد الاحتجاجات الحالية يعكس تغيراً جوهرياً: فجيل جديد وُلد وتربى في بيئة رقمية بات يعتبر الوصول الحر إلى الإنترنت حقاً وجودياً لا يمكن التنازل عنه، وهذا التحول يجعل أي محاولة للحجب أكثر تكلفة سياسياً واجتماعياً.
المواقف الإقليمية والدولية
أبدت بعض الدول في جنوب آسيا قلقها من التطورات، مشيرة إلى أن الرقابة الرقمية قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار في بلد يشكل موقعه الجغرافي بين الهند والصين أهمية استراتيجية، كما تابعت بعثات دبلوماسية أوروبية وأميركية المظاهرات، داعية إلى "الحوار بدل القمع"، أما شركات التكنولوجيا الكبرى، فقد التزمت الصمت حتى الآن، فيما لم تصدر عن ميتا أو إكس أو غوغل بيانات رسمية بشأن قرار الحجب.
تكشف الأزمة عن معضلة مزدوجة: من جهة، تواجه الحكومة ضغطاً داخلياً متزايداً للسيطرة على فضاء رقمي تستخدمه المعارضة والناشطون كمنصة للتنظيم والتعبئة، ومن جهة أخرى، فإن الإجراءات القمعية قد تؤدي إلى تقويض شرعيتها على المدى البعيد، خصوصاً في أعين جيل شاب يشكل غالبية سكان البلاد، وفي حال استمرار الحجب، قد تشهد نيبال هجرة رقمية نحو منصات بديلة أو حتى تطوير تطبيقات محلية، لكن على حساب العزلة عن المشهد العالمي وتراجع الثقة بالاستثمار.
أزمة حجب منصات التواصل في نيبال ليست مجرد خلاف قانوني حول تسجيل الشركات، بل تعكس صراعاً أوسع بين الحرية والرقابة، بين جيل يسعى لإعادة صياغة مستقبله وحكومة تسعى لتقييد فضاء التعبير، وبينما يتصاعد الضغط الدولي وتكبر المظاهرات، يظل السؤال مفتوحاً: هل ستتمكن نيبال من الموازنة بين متطلبات الأمن والسيادة وبين التزاماتها بحقوق الإنسان والحرية الرقمية؟