التعليم معطل والأجور معلقة.. أزمة مالية تخنق السلطة الفلسطينية

التعليم معطل والأجور معلقة.. أزمة مالية تخنق السلطة الفلسطينية
عملة الشيكل الإسرائيلية

مع مطلع سبتمبر، كان يفترض أن يعود أكثر من 600 ألف طالب إلى مدارس السلطة الفلسطينية، لكن الأزمة المالية التي تضرب أركان السلطة تسببت في تأجيل العام الدراسي، حيث عجزت الحكومة عن دفع رواتب المعلمين، ما عكس عمق الضائقة الاقتصادية التي وصلت إليها. وبحسب بيان لوزارة التعليم الفلسطينية، جاء القرار بعد عجز الوزارات عن استكمال الاستعدادات نتيجة شح الموارد وانهيار منظومة دفع الأجور.

ومنذ أشهر، يعاني موظفو السلطة الفلسطينية البالغ عددهم نحو 90 ألف موظف، من تأخر الرواتب أو صرفها بنسب مجتزأة، ففي يوليو الماضي، لم يتلقّ الموظفون سوى نصف رواتبهم، مع حد أدنى مقداره ألفا شيكل فقط، (١ شيكل إسرائيلي يساوي ٠٫٣٠ دولار أمريكي) ووفق معهد الأبحاث الفلسطيني "أمان"، تراوح متوسط الرواتب الشهرية في العام 2025 بين 1250 شيكلاً بحد أدنى و4020 شيكلاً بحد أقصى، وهي مبالغ لم تعد تُدفع بانتظام، ما انعكس مباشرة على الأوضاع المعيشية.

الأزمة وصلت إلى مرحلة غير مسبوقة عندما أعلنت وزارة المالية أن رواتب يونيو لن تُصرف كاملة، بل بنسبة 50% فقط. هذا الوضع دفع نقابة المعلمين إلى التحذير من أن استمرار الأزمة يهدد العملية التعليمية برمتها.

جذور الأزمة المالية

تعود جذور الأزمة إلى اعتماد السلطة الفلسطينية الكبير على عائدات الضرائب أو ما يُعرف بـ"أموال المقاصة"، التي تجمعها إسرائيل بموجب بروتوكول باريس الاقتصادي عام 1994،هذه الإيرادات التي تمثل نحو 65% من ميزانية السلطة، تصل إلى حوالي 9.6 مليار شيكل سنوياً، لكن منذ سنوات، تتعرض هذه الأموال للاقتطاع أو الحجز من الجانب الإسرائيلي، خاصة بحجة ما يُعرف بسياسة "الدفع للأسرى وعائلات منفذي الهجمات".

بحسب تقديرات مراكز بحثية فلسطينية، خصمت إسرائيل نحو 500 مليون شيكل سنوياً من هذه الأموال في السنوات الخمس الماضية. ومع تصاعد التوتر بعد هجوم 7 أكتوبر 2023، حجبت إسرائيل مبالغ إضافية تجاوزت ملياري شيكل، شملت مخصصات كانت تُحوّل إلى قطاع غزة.

الانعكاسات على المجتمع الفلسطيني كانت كارثية. تراجع الاستهلاك بشكل حاد مع تقلص القدرة الشرائية للأسر، الأسواق المحلية بدت راكدة، في حين ارتفعت معدلات البطالة إلى مستويات مقلقة. ووفق بيانات البنك الدولي، انكمش الاقتصاد الفلسطيني بنحو 30% خلال عام 2024 في أسوأ أزمة يشهدها منذ انتفاضة الأقصى مطلع الألفية.

هذا الانكماش يضرب قطاعين رئيسيين: موظفي القطاع العام الذين لم يعودوا يتقاضون رواتبهم كاملة، والعمال الفلسطينيين في إسرائيل الذين تقلص عددهم من أكثر من 100 ألف قبل الحرب إلى أقل من 7 آلاف حالياً، النتيجة هي فقدان ثلثي الأسر الفلسطينية لمصدر دخل ثابت.

تهديدات أمنية موازية

لا تقتصر التداعيات على الجانب الاقتصادي، المؤسسة الأمنية الإسرائيلية نفسها حذرت من أن الأزمة المالية داخل السلطة الفلسطينية قد تنعكس على الاستقرار الأمني في الضفة الغربية، فغياب الرواتب يشمل أيضاً عناصر الأمن الفلسطيني، ما يثير المخاوف من فقدان السيطرة أو حتى تفكك الأجهزة الأمنية.

تحذيرات مشابهة صدرت عن خبراء فلسطينيين، بأن انقطاع الدخل وانتشار البطالة بين الشباب سيؤديان إلى تهديد مباشر للأمن الداخلي.

الأزمة كشفت أيضاً هشاشة الوضع السياسي الداخلي، فقد اعتقلت الشرطة الفلسطينية أشخاصاً في رام الله بعد تداول تسجيل صوتي يزعم أن السلطة انتهت وأنها لم تعد قادرة على دفع الرواتب، هذه الاعتقالات اعتُبرت مؤشراً على الضيق السياسي الذي يرافق الضائقة الاقتصادية، حيث تحاول السلطة احتواء الغضب الشعبي بوسائل أمنية.

الموقف الدولي والإقليمي

الولايات المتحدة أعربت عن قلقها من احتمال انهيار السلطة الفلسطينية، معتبرة أن ذلك لن يكون في صالح أي طرف، والسفير الأمريكي لدى إسرائيل حذر علناً من أن "اليائسين قد يفعلون أشياء يائسة"، في إشارة إلى المخاطر الأمنية الناتجة عن التدهور الاقتصادي.

الاتحاد الأوروبي تلقى رسائل من مسؤولين فلسطينيين، منهم حسين الشيخ، يطالبون بالتدخل للإفراج عن مليارات الشواكل المحتجزة لدى إسرائيل، كما أبدت الأمم المتحدة قلقها من انعكاسات الأزمة على حقوق الأطفال في التعليم وعلى الحق في العمل والعيش الكريم المكفولين بموجب العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

القانون الدولي والالتزامات القائمة

وفق اتفاقيات أوسلو وما تبعها من بروتوكولات، تُلزم إسرائيل بتحويل أموال الضرائب إلى السلطة الفلسطينية، واحتجاز هذه الأموال بشكل غير مبرر يثير جدلاً قانونياً، حيث عد خبراء أن ذلك يمثل خرقاً لالتزامات دولة الاحتلال تجاه السكان المدنيين في الأراضي المحتلة.

كما أن تعطيل التعليم وحرمان مئات الآلاف من الطلاب من الالتحاق بالمدارس يعد انتهاكاً صريحاً لاتفاقية حقوق الطفل التي تضمن حق التعليم حتى في ظروف الطوارئ والنزاعات.

الأزمات المالية ليست جديدة على السلطة الفلسطينية. فمنذ تأسيسها في منتصف التسعينيات اعتمدت بشكل كبير على المساعدات الدولية وأموال المقاصة، ومع كل أزمة سياسية أو تصعيد أمني، كانت هذه الأموال تتحول إلى أداة ضغط. في العام 2006، وبعد فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية، جُمدت المساعدات الدولية بشكل شبه كامل، ما أدى إلى أزمة مشابهة.

لكن الفارق اليوم أن الأزمة تأتي في ظل واقع اقتصادي أشد هشاشة، مع تضاؤل الدعم العربي والدولي وتراجع الثقة الشعبية في المؤسسات.

الحاجة إلى حلول عاجلة

مع استمرار الوضع الراهن، تطالب المنظمات الحقوقية والإنسانية بحلول عاجلة، منها الإفراج الفوري عن أموال المقاصة، وتقديم دعم دولي طارئ لتغطية الرواتب الأساسية وتمويل التعليم، كما يُطرح خيار إنشاء آلية دولية محايدة لإدارة هذه الأموال بعيداً عن التجاذبات السياسية.

كما يدعو خبراء إلى إعادة هيكلة الاقتصاد الفلسطيني وتقليل اعتماده على إسرائيل، من خلال دعم القطاعات المحلية، وتشجيع الاستثمار الداخلي، وبناء بدائل أكثر استقلالية.

الأزمة المالية التي تواجهها السلطة الفلسطينية ليست مجرد أزمة رواتب أو تأجيل دراسي عام، بل هي انعكاس لتشابك سياسي واقتصادي طويل الأمد، واستمرارها يهدد بتفكك المنظومة التعليمية، وإضعاف مؤسسات الحكم، وزعزعة الاستقرار الأمني والاجتماعي في الضفة الغربية. وفي ظل تعثر الحلول السياسية، يبقى إنقاذ الاقتصاد الفلسطيني ضرورة إنسانية عاجلة، ليس فقط لملايين الفلسطينيين، بل أيضاً لاستقرار المنطقة بأسرها.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية