حقوق تتلاشى وتمويل يتراجع.. عثرات وقيود تهدد مكاسب عقود في مكافحة الإيدز
حقوق تتلاشى وتمويل يتراجع.. عثرات وقيود تهدد مكاسب عقود في مكافحة الإيدز
كان من المفترض أن يقدّم مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان تقريرًا عن “استدامة الاستجابة لفيروس نقص المناعة البشرية ”الإيدز" مع مراعاة حقوق الأشخاص المتعايشين والمعرضين والمتأثرين بالفيروس"، استجابةً لقرار مجلس حقوق الإنسان الهادف إلى تثبيت نهج قائم على الحقوق في جهود الإلغاء النهائي للإيدز، إلا أن تنفيذ هذا الالتزام الأممي واجه عقبة عملية عالية الأثر، وقد أبلغت جهات مدنية أن المكتب لن يستطيع تقديم التقرير كما هو مقرر بسبب قيود مالية داخل منظومة الأمم المتحدة، ما يترك فراغًا في توجيه سياسي وقانوني مبتغى من قبل المجتمع المدني والدول الشريكة.
ما الذي تغيّر؟
كان الهدف من التقرير تبيان كيفية ترجمة الالتزامات الدولية إلى سياسات وتمويل واستجابات وطنية تحترم الحقوق، وتقديم توصيات واضحة للدول والمانحين والوكالات الأممية للحفاظ على المكاسب وتقوية المجتمعات المتأثرة، ومع تلاقي أزمة تمويل عالمية أدت إلى تعطّل سلاسل دعم حيوية، كان التقرير سيعمل كمرجعية أممية لربط الحماية القانونية بحق الوصول إلى الوقاية والعلاج والرعاية الأساسية، ويقلص إلغاء أو تأجيل هذا المنتج أدوات المساءلة أمام الحكومات والجهات المانحة في لحظة حساسة.
المعدّلات الراهنة والضغوط الواقعية
الحقائق الوبائية والبرامجية توضح هشاشة المرحلة: في 2024 بلغ عدد الأشخاص المتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشرية نحو 40.8 مليون على مستوى العالم، مع نحو 1.3 مليون إصابة جديدة و630 ألف وفاة مرتبطة بالإيدز في العام نفسه، كانت أعداد المستفيدين من العلاج قد وصلت إلى عشرات الملايين، لكن الانخفاض الحاد والمفاجئ في تمويل عام 2025 هدد استمرارية الخدمات الأساسية، لا سيما في دول منخفضة ومتوسطة الدخل التي تعتمد على دعم خارجي، وهذه الأرقام لا تُقرأ بمعزل عن حقيقة أن الاستجابات التي تضع الحقوق في مركزها ثبت أنها أكثر فعالية في الاحتفاظ بالمرضى على العلاج وفي خفض الإصابات الجديدة.
أسباب تآكل الزخم السياسي
تتقاطع أسباب تراجع الدعم السياسي والحقوقي لبرامج الإيدز في عدة محاور: أولًا النزعات المالية والسياسية في عدد من دول المانحة التي أعادت ترتيب أولويات المساعدات الخارجية، واختلالات في الإجماع الدولي على توزيع الأعباء، ثانيًا الضغوط الداخلية في بعض البلدان على حقوق المجتمعات المتأثرة ومنها سياسات تجريم السلوكيات الجنسية، وتقييد عمل منظمات المجتمع المدني، واستهداف خدمات الحد من الأضرار، كلها تعرقل الوصول الشامل للخدمات، ثالثًا ضعف تمويل الشركاء الدوليين أدى إلى عمليات تقليص خدمات أساسية وفرض تبعات فورية على مراكز العلاج والوقاية المجتمعية، هذه العوامل مجتمعة تجعل من الاستدامة مسألة سياسية قبل أن تكون تقنية أو مالية.
تداعيات إلغاء التقرير وتعثر المساءلة
غياب تقرير أممي موضوعي ومُعدّ بإسناد فني وقانوني يترك فجوة في عدة محاور: يقلّ الوضوح حول المسؤوليات الدولية والوطنية في حماية الصحة وحقوق الفئات الأكثر تهميشًا، وتتضاءل سلطة التوصيات القائمة على حقوق الإنسان أمام سياسات تقشف قد تستبعد برامج متعلقة بالوقاية أو مجتمعات مفتقرة للحماية، وتضعف أدوات المجتمعات المدنية في المطالبة بتمويل مباشر ومستمر أو في حماية العاملين الصحيين والشركاء المحليين، وفي السياق العملي قد يؤدي ذلك إلى مزيد من الانقطاعات في تقديم الأدوية والوقاية، مع عواقب بشرية جسيمة محتملة.
ردود فعل المجتمع المدني والمنظمات الدولية
أصدرت منظمات مجتمع مدني عاملة في مجال الصحة وحقوق الإنسان مداخلات مكتوبة ومطالب مستمرة لإشراك المجتمعات في صياغة السياسات وضمان استمرارية التمويل، وقدمت جمعيات مثل منظمات الحد من الضرر والتحالفات الإقليمية والجهات الناشطة في الدفاع عن حقوق الأشخاص المتعايشين مواد لإدراجها في التقرير قبل إعلانه، وأكدت أهمية أن يظل النهج قائمًا على الحقوق وعدم تحويل الاستجابة الصحية إلى أداة أمنية أو إدارية، كما حذرت من أن فقدان منصة أممية موثوقة لتقديم رؤية حقوقية قد يسرّع تقليص التمويل لمشروعاتٍ قيادية مجتمعية ويضعف التنسيق بين الدول والوكالات.
لم تكن العلاقة بين استجابة الإيدز وحقوق الإنسان مفروضة حديثا، بل نتاج مسار طويل من نضال نشطاء المتعايشين والمجتمعات المتضررة منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حيث أثبتت التجربة العالمية أن حقوق المواطن، ووقف تجريم السلوكيات، وتمكين المنظمات المجتمعية، وقد أثرّت تأثيرًا مباشرًا في توسيع الوصول للعلاج والوقاية، وأي تراجع في ربط الاستجابة بملف الحقوق يعيد سيناريوهات سابقة من التفشّي والوفاة التي كُلفت دولًا ومجتمعات ثمناً بشريًا باهظًا.
خريطة طريق عملية لتعزيز الزخم الحقوقي
الاستمرار في ربط السياسة بالحقوق يتطلب خطوات عملية محددة منها ضمان تمويل مستدام عبر مزيج من موارد داخلية وزيادة التزام المانحين، وحماية وتمويل مباشرة للمنظمات المجتمعية، وإلغاء سياسات تجريم الفئات الأكثر تضرراً أو مراجعتها، وتأمين سلاسل الأدوية والمخزون، واستعادة منصة أممية مستقلة لعرض التقييمات والتوصيات الحقوقية سواء عبر استئناف تقرير المكتب الأممي أو عبر تقارير بديلة من آليات الأمم المتحدة وفرق خبراء مستقلة، كما ينبغي أن تتضمن الاستجابة آليات شفافة للمساءلة عن أي تقليص خدماتي يؤثر على الحق في الصحة، وهذه المقترحات مدعومة من الأدلة التقنية والسياساتية التي صاغتها وكالات متخصصة ومرجعيات استدامة الاستجابة وفق موقع "UNAIDS Sustainability Website".
في لحظة يواجه فيها العالم مخاطرة انزلاقٍ إلى خسائر بشرية وصحية جراء تراجع التمويل وتقلّص الحيز الحقوقي، تصبح المحافظة على زخم سياسي لحقوق الإنسان في الاستجابة لفيروس نقص المناعة البشرية ضرورة ملحة، وإنقاذ المكتسبات واستعادة استجابة فعّالة ومستدامة لن يتحقق إلا عبر جمع بين إرادة سياسية، وحماية الحقوق، وتمويل مستمر يضع المجتمعات المتأثرة في مركز القرار.