بين التضييق الرقمي والحقوق.. هل يعمّق خنق المنصات الاجتماعية أزمة الثقة في تركيا؟

بين التضييق الرقمي والحقوق.. هل يعمّق خنق المنصات الاجتماعية أزمة الثقة في تركيا؟
منصات التواصل الاجتماعي

في لحظات الأزمات يبحث الناس عن المعلومة الدقيقة، وعن وسيلة للتواصل تحفظ سلامتهم وتساعدهم على اتخاذ القرارات، غير أن ما يحدث في تركيا يطرح إشكالية متنامية وتعطيل منصات التواصل الاجتماعي وخدمات المراسلة بشكل متكرر في أوقات حساسة سياسيًا واجتماعيًا، يعزل ملايين المواطنين عن العالم الخارجي ويضيّق مساحة التعبير العام، وهذه الإجراءات لم تعد حوادث متفرقة، بل تحوّلت إلى سياسة تُمارَس تحت غطاء القوانين المحلية، في تحدٍ صارخ للمعايير الدولية لحقوق الإنسان.

إغلاق منصات التواصل في سبتمبر 2025 جاء متزامنًا مع حصار مقر حزب الشعب الجمهوري في إسطنبول واشتباكات مع الشرطة، كما أعقب اعتقالات سياسية بارزة في مارس من العام نفسه، وتبرر السلطات عادةً هذه التدابير باعتبارات الأمن القومي أو الحفاظ على النظام العام استنادًا إلى المادة 60/10 من قانون الاتصالات الإلكترونية، لكن المنظمات الحقوقية ترى أن غياب الشفافية في تطبيق هذه المادة يحوّلها إلى أداة لإخماد المعارضة السياسية، بدل أن تكون استثناءً يخضع لمراقبة قضائية دقيقة.

لم يكن خنق المنصات حدثًا معزولًا في تركيا، في زلزال فبراير 2023، تعطّلت منصة "X" لمدة 12 ساعة في لحظة كان التواصل الرقمي فيها ضرورة لإنقاذ الأرواح، وفي تفجير إسطنبول في نوفمبر 2022، حُجبت منصات رئيسية منها إنستغرام ويوتيوب، تكرار هذه الإجراءات في أزمات طبيعية وأمنية وسياسية يكشف عن استراتيجية ممنهجة أكثر من كونها تدابير طارئة.

الأبعاد الحقوقية والقانونية

بحسب القانون الدولي لحقوق الإنسان، لا يمكن تقييد حرية التعبير والوصول إلى المعلومات إلا وفق شروط صارمة: وجود أساس قانوني واضح، وأن يكون التقييد ضروريًا لتحقيق هدف مشروع، وأن يكون متناسبًا مع هذا الهدف، وشددت المفوضية السامية لحقوق الإنسان على أن عمليات الحجب العشوائية وغير المتناسبة تنتهك هذه المبادئ، كما أن محكمة حقوق الإنسان الأوروبية أصدرت في قضايا سابقة ضد تركيا أحكامًا تجرّم الحجب الجماعي للمواقع والمنصات باعتباره إجراءً مفرطًا.

خمس عشرة منظمة من أبرز الهيئات الحقوقية والإعلامية، بينها هيومن رايتس ووتش والاتحاد الدولي للصحفيين والمعهد الدولي للصحافة، أصدرت بيانًا مشتركًا يدعو أنقرة إلى وقف "خنق التواصل الرقمي" والوفاء بالتزاماتها الدولية، واعتبرت منظمات محلية في تركيا أن التضييق الرقمي يوازي في أثره منع الصحف الورقية في حقبة ما قبل الإنترنت، لأنه يحرم المواطنين من الاطلاع على روايات بديلة لما تبثه القنوات الرسمية.

التداعيات الإنسانية والاجتماعية

يؤثر تعطيل وسائل التواصل بشكل مباشر على حياة الناس اليومية، فهو يقطع خطوط الاتصال بين العائلات، ويمنع الصحفيين من تغطية الأحداث، ويضعف قدرة المجتمع المدني على التعبئة السلمية، وفي أوقات الاحتجاجات أو الكوارث، يصبح الحجب مسألة حياة أو موت، أما على المدى البعيد فإنه يعمّق أزمة الثقة بين الدولة والمجتمع، ويدفع المواطنين إلى البحث عن أدوات تجاوز الحجب مثل الشبكات الافتراضية، التي كثيرًا ما تكون هي الأخرى محظورة أو محدودة الفاعلية.

تقييد الفضاء الرقمي يترك أثرًا سلبيًا على بيئة الاستثمار في قطاع التكنولوجيا والاتصالات، إذ يحذر المستثمرون الدوليون من بيئة لا توفر استقرارًا للاتصال، كما أن استمرار الرقابة الرقمية يعقّد محاولات تركيا تقديم نفسها كشريك موثوق للاتحاد الأوروبي في مجالات الديمقراطية وحوكمة الإنترنت.

تعود جذور هذه الأزمة إلى ما بعد محاولة الانقلاب عام 2016، عندما مُنحت السلطات صلاحيات استثنائية بموجب مراسيم الطوارئ، ثم جرى تدوينها لاحقًا في القانون، ومنذ ذلك الحين، توسّعت صلاحيات هيئة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في حجب المحتوى والمنصات دون رقابة كافية، وفي 2020، أُدخلت تعديلات تُلزم المنصات الأجنبية بتعيين ممثلين محليين والامتثال لطلبات الحذف، ما فتح الباب لمزيد من التدخلات.

المطالب الأممية والمعايير الدولية

تؤكد الأمم المتحدة أن أي حجب للإنترنت أو المنصات يجب أن يخضع لمراجعة قضائية مستقلة، وأن يُقدَّم للمستخدمين تفسيرا واضحا حول المدة والنطاق، كما دعت المفوضية السامية لحقوق الإنسان الحكومات إلى ضمان آليات للإنصاف، بحيث يمكن للمواطنين الاعتراض على الإجراءات التي تمس حقوقهم، لكن في الحالة التركية، يتم فرض القيود فجأة ورفعها فجأة دون مبرر معلن، ما يجعل المتضررين عاجزين عن المطالبة بحقوقهم.

وتواجه تركيا اختبارًا صعبًا.. هل ستستمر في التعامل مع الفضاء الرقمي باعتباره ساحة تهديد يجب السيطرة عليها، أم كفضاء مدني حيوي يجب حمايته؟ فالإصلاح القانوني الشامل، وإعادة النظر في المادة 60/10 من قانون الاتصالات، وتبني سياسات شفافة تراعي الحقوق الرقمية، كلها خطوات ضرورية لتقليل الفجوة بين الدولة والمجتمع. وفي غياب ذلك، سيظل خطر التضييق الرقمي قائمًا، مع ما يحمله من تداعيات على الديمقراطية والاقتصاد والاستقرار الاجتماعي.

أزمة التضييق على منصات التواصل في تركيا ليست مجرد قضية تقنية أو خلاف قانوني؛ إنها أزمة حقوقية وسياسية تمس جوهر العلاقة بين الدولة ومواطنيها، في كل مرة يُحجب فيها الإنترنت أو تُعطّل المنصات، يتراجع هامش الحرية العامة خطوة إلى الوراء، ويُفتح الباب واسعًا أمام عزلة رقمية تُهدد الديمقراطية والحق في الوصول إلى المعلومات، وبحسب المنظمات الحقوقية توجد أمام الحكومة التركية اليوم فرصة لإثبات التزامها بالمعايير الدولية والوفاء بوعودها الإصلاحية، أو المخاطرة بمزيد من العزلة الحقوقية والسياسية.

تشير أحدث الإحصاءات إلى أن تركيا باتت واحدة من أكثر الدول اتصالًا بالإنترنت، حيث يستخدم نحو 90.9 في المئة من السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و74 عامًا الشبكة العنكبوتية بانتظام في عام 2025، أي ما يعادل أكثر من 75 مليون شخص، ويبلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي النشطين حوالي 58.5 مليون مستخدم، وهو ما يمثل قرابة 66.7 في المئة من إجمالي السكان، بمتوسط يومي يصل إلى سبع ساعات وثلاث عشرة دقيقة يقضيها الأتراك على الإنترنت، منها ساعتان وثلاث وأربعون دقيقة مخصصة للتفاعل عبر منصات التواصل الاجتماعي.

وتكشف هذه الأرقام، التي تعكس التحول الرقمي الواسع في المجتمع التركي، عن الأهمية البالغة للفضاء الرقمي في حياة المواطنين اليومية، ما يجعل أي تضييق أو تعطيل لهذه المنصات مؤثرًا بشكل مباشر على حقهم في الوصول إلى المعلومات والتعبير والمشاركة العامة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية