رغم الحرب والفقر.. اليمن بوابة الهاربين من القرن الإفريقي
رغم الحرب والفقر.. اليمن بوابة الهاربين من القرن الإفريقي
على امتداد السواحل اليمنية المليئة بملح البحر وخطر الموت، لا تتوقف قوارب صغيرة محمّلة بالبشر عن الوصول من شواطئ القرن الإفريقي، تحمل وجوهًا أنهكها الجوع والخوف واليأس، ورغم أن اليمن يعيش واحدة من أكثر الحروب دمارًا في العالم، فإنه بات في الأشهر الأخيرة محطة رئيسية لموجة هجرة غير مسبوقة نحو المجهول، في مشهد يعكس حجم المأساة الإنسانية التي تضرب شرق القارة الإفريقية والمنطقة بأسرها.
وفقًا لتقرير حديث صادر عن منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة، أوردته شبكة "بوابتي"، سجّل اليمن خلال شهر أكتوبر الماضي أعلى معدل شهري للهجرة منذ عام 2024، بوصول أكثر من سبعة عشر ألفًا وستمئة وخمسة وثمانين مهاجرًا من دول القرن الإفريقي، وأوضح التقرير أن هذه الأعداد تمثل زيادة تقارب الضعف مقارنة بشهر سبتمبر الذي شهد وصول ثمانية آلاف وثمانمئة وثمانية وسبعين مهاجرًا، ما يعكس تصاعدًا حادًا في حركة الهجرة غير النظامية عبر البحر العربي.
وبيّن التقرير أن المهاجرين الإثيوبيين يشكلون ما نسبته سبعة وتسعين في المئة من الوافدين الجدد، مقابل ثلاثة في المئة من الصومال، كما أظهرت البيانات أن الرجال يشكلون ثلثي المهاجرين تقريبًا، في حين بلغت نسبة النساء سبع عشرة في المئة والأطفال ستة عشر في المئة، وهو ما يعكس الطابع الإنساني العميق لهذه الموجة التي لم تعد مقتصرة على الشباب الباحثين عن العمل، بل امتدت لتشمل العائلات والفئات الضعيفة.
طرق الهروب والموت
تظهر بيانات المنظمة أن جيبوتي كانت نقطة الانطلاق الرئيسية للمهاجرين الأفارقة بنسبة خمسة وسبعين في المئة، تليها الصومال بنسبة اثنين وعشرين في المئة وسلطنة عُمان بثلاثة في المئة، ووصل معظم المهاجرين القادمين من جيبوتي إلى مديريات أحور في محافظة أبين وذو باب في محافظة تعز، في حين وصل القادمون من الصومال إلى سواحل رضوم في محافظة شبوة، وهذه الرحلات، التي تستغرق بين ثماني ساعات إلى اثنتي عشرة ساعة، تتم في ظروف خطيرة على متن قوارب متهالكة، وغالبًا ما يلقى المهاجرون حتفهم قبل أن تطأ أقدامهم اليابسة.
تصف منظمة الهجرة الدولية البحر العربي بأنه واحد من أكثر الممرات البحرية فتكًا بالمهاجرين في العالم، إذ يُقدّر أن المئات يلقون حتفهم سنويًا غرقًا أو نتيجة الإلقاء المتعمد في البحر من قبل المهربين، ورغم التحذيرات الدولية، فإن هذه الرحلات لا تتوقف؛ لأن خلف كل قارب هناك قصة إنسانية تدفع أصحابها للهرب مهما كان الثمن.
اليمن بين الحرب والاستقبال القسري
ورغم الحرب المستمرة منذ نحو عقد، ما زال اليمن يمثل بالنسبة للمهاجرين الأفارقة بوابة إلى منطقة الخليج التي ينظرون إليها بوصفها وجهة للأمان والرزق، فإن كثيرين منهم يجدون أنفسهم عالقين في الداخل اليمني بعد أن تتحول البلاد من ممر عبور إلى محطة احتجاز قسري بسبب إغلاق الحدود وتردي الأمن.
وتشير بيانات المنظمة إلى أن نحو ألف وثمانمئة وخمسة وعشرين مهاجرًا إثيوبيًا فقط تمكنوا من مغادرة اليمن خلال أكتوبر الماضي عبر رحلات العودة الإنسانية إلى جيبوتي، في حين بقي عشرات الآلاف عالقين وسط ظروف قاسية.
وفي مدن مثل عدن ومأرب والبيضاء، تنتشر معسكرات مؤقتة تفتقر إلى أبسط مقومات المعيشة، وتؤكد منظمات حقوقية أن كثيرًا من المهاجرين يتعرضون للاحتجاز التعسفي والابتزاز على أيدي المهربين أو القوات المحلية، في حين تتحدث تقارير أخرى عن حالات تعذيب واستغلال جنسي، خاصة بين النساء والأطفال.
أسباب الهروب الجماعي
يرتبط تصاعد الهجرة من القرن الإفريقي إلى اليمن ارتباطًا وثيقًا بالتدهور الإنساني في بلدان المنشأ. ففي إثيوبيا، أدت الحرب التي اندلعت في إقليم تيغراي ثم امتدت إلى مناطق أخرى إلى نزوح الملايين، في حين تعاني مناطق الجنوب والشرق من جفاف غير مسبوق.
وتشير منظمة الأغذية والزراعة إلى أن أكثر من عشرين مليون شخص في القرن الإفريقي يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، أما في الصومال، فما تزال آثار الصراعات الداخلية والتغير المناخي وتراجع المساعدات الإنسانية تفرض واقعًا لا يترك مجالًا للبقاء.
في ظل هذه الظروف، تبدو رحلة الهجرة إلى اليمن، رغم مخاطرها، خيارًا وحيدًا لدى آلاف الفارين من الجوع والعنف، ويقول أحد موظفي الأمم المتحدة في جيبوتي: "المهاجرون يعرفون أن اليمن بلد مدمر، لكنهم يقولون دائمًا إنهم مستعدون للموت في الطريق أفضل من الموت جوعًا في قراهم".
شهادات وشبكات استغلال
تؤكد تقارير منظمات حقوق الإنسان مثل هيومن رايتس ووتش والمجلس النرويجي للاجئين أن شبكات التهريب والاتجار بالبشر في السواحل اليمنية أصبحت أكثر تنظيمًا وخطورة، فبعد وصول المهاجرين إلى الشواطئ، يُنقل كثير منهم إلى مناطق نائية حيث يُحتجزون حتى تدفع عائلاتهم فدية مالية.
وتوثق تلك المنظمات حالات تعذيب ممنهجة واغتصاب واختفاء قسري، في حين تلتزم السلطات المحلية الصمت أو تشارك في بعض الأحيان في شبكات الاستغلال نفسها.
وأشارت منظمة العفو الدولية في تقرير صدر منتصف العام الجاري إلى أن نحو ثلاثة وأربعين في المئة من المهاجرين في اليمن يعيشون في ظروف شبيهة بالعبودية الحديثة، حيث يُجبرون على العمل القسري في المزارع والموانئ دون أجر أو حماية قانونية.
التاريخ الطويل للهجرة
ليست هذه الموجة الأولى من نوعها، فالعلاقة بين اليمن والقرن الإفريقي تمتد لعقود طويلة، بل لقرون من التواصل التجاري والاجتماعي، فمنذ تسعينيات القرن الماضي، بدأ تدفق المهاجرين الأفارقة إلى اليمن يتزايد بشكل ملاحظ، مدفوعًا بالحروب الأهلية في إثيوبيا والصومال وبالظروف الاقتصادية الصعبة.
في عام 1991، خلال سقوط نظام سياد بري في الصومال، استقبل اليمن عشرات الآلاف من اللاجئين الذين لجؤوا إلى عدن والمكلا. ثم شهدت الأعوام التالية استقرارًا مؤقتًا نسبيًا للهجرة المنظمة، قبل أن تتضاعف الأعداد بعد اندلاع الحرب اليمنية عام 2015، حيث استغل المهربون انهيار الدولة ومؤسساتها لتوسيع أنشطتهم.
ومنذ عام 2017، تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن اليمن أصبح الوجهة الأولى للمهاجرين الأفارقة في الشرق الأوسط، متجاوزًا في بعض الأعوام عدد الواصلين إلى أوروبا عبر المتوسط. هذا التحول يعكس الطبيعة المتغيرة للهجرة العالمية، إذ لم تعد تتجه فقط نحو الشمال، بل نحو أي نقطة يعتقد المهاجرون أنها أقل قسوة.
وصف المتحدث باسم المفوضية السامية لشؤون اللاجئين الأزمة بأنها منسية وسط صراعات أخرى تستحوذ على اهتمام العالم، وقال إن المهاجرين في اليمن يعيشون وضعًا مركبًا، فهم ليسوا لاجئين رسميين يتمتعون بالحماية القانونية، ولا مواطنين يتمتعون بحقوق أساسية. ودعت المفوضية المجتمع الدولي إلى زيادة التمويل والدعم الميداني لتخفيف معاناة عشرات الآلاف من المهاجرين العالقين في البلاد.
في المقابل، أكدت منظمة الهجرة الدولية أن قدراتها اللوجستية والمالية لا تكفي لتغطية الاحتياجات المتزايدة، خاصة في المناطق الساحلية الجنوبية حيث تتدهور الأوضاع الأمنية وتنتشر شبكات الجريمة المنظمة.
تحديات قانونية وإنسانية معقدة
يرى خبراء الهجرة أن معالجة الظاهرة تحتاج إلى تنسيق إقليمي واسع يشمل بلدان المنشأ والعبور والمقصد، إضافة إلى تعاون المجتمع الدولي في مكافحة الاتجار بالبشر وتوفير بدائل اقتصادية في القرن الإفريقي، فالمشكلة لا تتعلق فقط بالهجرة، بل بتدهور شامل في نظم الحكم والتنمية والأمن الغذائي في المنطقة، وهي عوامل تدفع آلاف الأسر إلى المقامرة بحياتهم عبر البحر العربي.
أما بالنسبة لليمن، فإن استمرار الحرب وتعدد السلطات يعرقل أي جهد حقيقي لتطبيق سياسات حماية للمهاجرين، ما يجعل البلاد رهينة موجات بشرية متتابعة لا تملك القدرة على استيعابها.
في كل ليلة تقريبًا، يركب المئات من شواطئ أوبوك في جيبوتي قوارب خشبية متداعية، يحملون معهم أحلامًا صغيرة في النجاة، لكن كثيرًا منهم لا يصلون أبدًا. بعض الجثث تُنتشل على السواحل اليمنية، والبعض الآخر تبتلعه الأمواج، وبين من ينجو ويُحتجز أو يُستغل، يبقى القاسم المشترك أنه لا أحد منهم وجد ما جاء يبحث عنه.
ورغم كل التقارير والتحذيرات، يستمر المشهد ذاته، فاليمن المنهك بالحرب أصبح، من دون قصد، آخر بوابة مفتوحة للهاربين من قسوة الجغرافيا والجوع والعنف في القرن الإفريقي، وما لم تتضافر الجهود الدولية لمعالجة الأسباب الجذرية للهجرة، فإن البحر سيظل يمتلئ بقصص جديدة عن الأمل المفقود والمصير الغارق.










