هجرة ما بعد البريكست.. أرقام متقلبة بين مخاوف مجتمعية وأسئلة قانونية وإنسانية

هجرة ما بعد البريكست.. أرقام متقلبة بين مخاوف مجتمعية وأسئلة قانونية وإنسانية
قوارب مهاجرين تصل إلي بريطانيا

تُظهر البيانات الرسمية أن موجة الهجرة التي شهدتها المملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي بلغت ذروتها ثم انحسرت بصورة حادة، في حين بقي القلق العام بشأن الموضوع عند مستويات تاريخية.

وفي عام 2024 سجلت الإحصاءات صافي هجرة بلغ نحو 431 ألف شخص، أي أقل بنحو النصف عن مستوى العام السابق، لكن الجمهور يضع الهجرة على رأس أولوياته السياسية والإعلامية. 

أسباب الصعود والهبوط

يمكن فهم تقلب أرقام الهجرة عبر ثلاثة محاور مترابطة: تغيّر السياسات، بنية التأشيرات، وظروف دفع الهجرة الدولية، سياسات ما بعد البريكست، وخصوصاً تعديل قواعد التأشيرات وتشجيع العمل والطلاب القادمين من خارج الاتحاد الأوروبي، أدت إلى زيادة كبيرة بين 2021 و2023.

ثم جاءت سلسلة تعديلات في 2024 تستهدف مثلاً اعتماد قيود على مرافقي الطلاب وبعض فئات العاملين في الرعاية الصحية، مما خفض منح تأشيرات المعالين بشكل حاد وأسهم في انحسار صافي الهجرة في 2024 وفق بيانات حكومة المملكة المتحدة.

يشكل الطلبة نسبة كبيرة من الوافدين الجدد، مع تراجع ملحوظ في أعداد مرافقي الطلبة عقب تغييرات القواعد، بينما تمثّل تأشيرات العمل وحاملوها شريحة مهمة أخرى، ويشكل اللاجئون وطالبو الحماية جزءاً أصغر من إجمالي الوافدين مقارنة بمجموع تأشيرات العمل والدراسة، لكن أعداد طالبي اللجوء زادت في بعض السنوات، ما جعل ملف القوارب الصغيرة والطلبات على الحدود موضوعاً مركزياً في النقاش العام، والأرقام تشير إلى نحو 37 ألف وصول بالقوارب في 2024، في حين سجلت طلبات لجوء مرتفعة أيضاً في العام نفسه. 

الهجرة والعمل.. مساهمة أم عبء؟

تقدم بيانات سوق العمل صورة معقدة فمعدلات توظيف المهاجرين العاملين في المملكة المتحدة ليست أقل بكثير من معدلات السكان المولودين محلياً، وفي بعض فئات الرجال العاملين تفوقها، كما أظهرت بيانات ربط سجلات التأشيرات ببيانات الأجور أن معظم حاملي بعض أنواع التأشيرات المسجلة حققوا أرباحاً في السنة المالية 2023–2024، كما كشفت تحليلات أن نسبة كبيرة من المعيلين (الأفراد المرفقين بحاملي تأشيرات العمل أو الدراسة) يعملون بالفعل في السوق البريطانية، وهذه مؤشرات على مساهمة عملية في اقتصاد العمل، وإن كان تحليل الأثر المالي العام على المدى الطويل يتطلب دراسات أوسع زمنياً ومحاسبية. 

رغم تراجع صافي الهجرة من الذروة، فإن مستوى القلق الشعبي حول الهجرة ظل مرتفعاً؛ حيث أطهرت استطلاعات حديثة أن حوالي نصف البريطانيين يصنفون الهجرة كإحدى القضايا الأساسية التي تواجه البلاد، وانعكس هذا التوتر العام في تطورات سياسية وتشريعية، وحفّز توجهات رقابية على الحدود وإجراءات سياساتية تهدف إلى تقليص بعض فئات التأشيرات أو تقييد مرافقيها. 

ردود فعل المنظمات الحقوقية

ردود المنظمات الحقوقية وطنية ودولية اتسمت بالتحذير من مخاطر سن تشريعات تقيد حق اللجوء أو تفرض عقوبات على القادمين بطرق غير نظامية دون توفير سبل آمنة ومشروعة للطلبة واللاجئين، وأكدت منظمات مثل العفو الدولية واللجان الأممية على ضرورة حماية حقوق طالبي الحماية وعدم المساس بالالتزامات الدولية للمملكة المتحدة تجاه اللاجئين، فيما دعت مفوضية شؤون اللاجئين إلى مراعاة المعايير الدولية عند مراجعة التشريعات والإجراءات الحدودية، وركزت الانتقادات خاصة على بنود قد تحد من إمكانية التماس الحماية وتضر بمجموعات هشة. 

تغيّرات قواعد التأشيرات أثرت أيضاً في قطاعات حسّاسة حيث شهدت الجامعات تذبذباً في أعداد الطلبة الدوليين وإيراداتها، والقطاع الصحي واجه تغييراً في توازن القوى العاملة بعد القيود على مرافقي عمال الرعاية، ولاحظت بيانات رسمية ورقابية برلمانية أن توسع بعض مسارات التأشيرات لم يرافقه تقدير كافٍ للتبعات على البُنى الاجتماعية والاقتصادية، ما استدعى مراجعات ومطالبات بتقييمات أعمق للآثار بحسب "فايننشال تايمز".

خلاصة تحليلية وتوصيات

تقول الأرقام إن الهجرة إلى المملكة المتحدة تحولت من طفرة سياسية إلى ظاهرة أكثر تعقيداً وهوامش التراجع الأخيرة لا تنفي الحجم التاريخي للتدفقات التي دخلت بين 2021 و2023، ولا تلغي الضغوط الفعلية على قطاعات محلية أو على النسيج الاجتماعي، وبناءً على المعطيات المتاحة، تبدو الحاجة إلى سياسات متوازنة واضحة من خلال بيان أنواع التأشيرات المطلوبة اقتصادياً، وتحسين نظام بيانات السوق لتقييم مساهمات الوافدين بدقة، وفتح مسارات آمنة للاجئين تتوافق مع الالتزامات الدولية، وتكثيف التواصل الشفاف مع الجمهور لخفض الهوة بين المخاوف الشعبية والحقائق الإحصائية، كما توصى برصد دوري لآثار تغيّرات القواعد على القطاعات الحيوية وتقييم مالي طويل المدى يراعي التكاليف والفوائد. 

أرقام الهجرة تكشف واقعاً متعدد الطبقات فهي ليست مجرد قياس عددي لوافدين جدد، بل مرآة لسياسات سبق أن غيّرتها عوامل كبرى، ومنصة لصراعات حول الهوية والاقتصاد والحقوق، وتتيح قراءة هادئة للأرقام وبيانات دقيقة لصانعي القرار والمجتمع خيارات عملية أفضل من الخطاب المباشر المختصر الذي يختزل القضية إلى مشاعر وخطابات انتخابية. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية