بين أزمات التمويل وتفاقم الانتهاكات.. لماذا يحتاج العالم مفوضية حقوق الإنسان الآن أكثر من أي وقت؟

بين أزمات التمويل وتفاقم الانتهاكات.. لماذا يحتاج العالم مفوضية حقوق الإنسان الآن أكثر من أي وقت؟
مفوضية حقوق الإنسان

في عالمٍ يموج بالحروب والصراعات والأزمات الاقتصادية والمناخية، تتعرض مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان لضغوط غير مسبوقة تهدد قدرتها على أداء مهامها الأساسية، فبينما يتصاعد العنف المسلح وتتسع رقعة النزاعات، تعاني المفوضية من أزمة تمويلية عميقة قد تقوّض ما بُذل من جهود على مدى عقود لضمان الكرامة الإنسانية وحماية الحقوق الأساسية لملايين البشر.

تراجع الدعم المالي الدولي، سواء عبر تقليص المساهمات أو تأخر سدادها، أدى إلى شللٍ جزئي في أنشطة المفوضية التي تمتد عبر أكثر من 90 دولة، وقد أعادت الولايات المتحدة هيكلة مساعداتها وخفضت مساهماتها، في حين قلصت دول أوروبية بارزة مثل فرنسا وألمانيا وفنلندا حجم مساعداتها الإنمائية، وفق ما أوردته شبكة "globalcitizen" اليوم الاثنين، وفي المقابل، لم تفِ قوى كبرى مثل الصين وروسيا والمكسيك بالتزاماتها المالية الكاملة، هذا الواقع يعكس مفارقة صارخة فبينما تتضاعف الحاجة إلى مراقبة الانتهاكات، يتراجع التمويل المخصص لتلك المهمة.

التداعيات الإنسانية

لهذه الأزمة تداعيات جسيمة فعندما تتعثر آلية دولية بحجم مفوضية حقوق الإنسان، يصبح ملايين الأشخاص أكثر عرضة لانتهاكات لا تجد من يرصدها أو يواجههان وتشير بيانات المفوضية نفسها إلى أنها رصدت في عام واحد نحو 15 ألف حالة انتهاك، وأشرفت على مراقبة ألف محاكمة قضائية حول العالم، وأجرت أكثر من 11 ألف مهمة ميدانية، وهذه الأرقام تكشف حجم العمل الميداني الذي يهدده التراجع المالي، بما يعني أن كثيرًا من الانتهاكات قد تمر دون توثيق أو متابعة.

لم تقتصر المخاطر على النزاعات المسلحة وحدها، بل امتدت إلى القضايا اليومية المرتبطة بحياة الناس، فمن التعليم والصحة إلى حرية التعبير والعمل في بيئة آمنة، يظل عمل المفوضية حاضرًا لضمان أن لا تتحول هذه الحقوق إلى امتيازات محصورة في فئة دون أخرى، وخلال جائحة كوفيد-19، لعبت المفوضية الأممية دورًا محوريًا في الضغط على الحكومات لضمان توزيع عادل للقاحات، وحماية العاملين في القطاع الصحي، ومنع التعسف في استخدام قوانين الطوارئ، ومثل هذه الأدوار تصبح أكثر إلحاحًا في ظل الكوارث المناخية والأزمات الاقتصادية التي تدفع الملايين إلى حافة الفقر.

قضايا كبرى

التاريخ يوضح أن غياب آليات حقوق الإنسان يقود إلى كوارث، فمنذ الحربين العالميتين وما خلفتاه من مآسٍ إنسانية، كان إنشاء الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان خطوة لتجنب تكرار الجرائم الجماعية والإبادة والعبودية، وفي ديسمبر 1993، وُلدت مفوضية حقوق الإنسان استنادًا إلى تلك الدروس، لتصبح حائط صد عالميًا أمام الانتهاكات، ومرجعية للحكومات والمجتمع المدني على السواء.

اليوم، يتقاطع عمل المفوضية مع قضايا كبرى مثل أزمة المناخ التي تفرض تهديدات مباشرة على الحق في الحياة والمأوى والغذاء، إضافة إلى التحديات المرتبطة بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، والتي قد تتحول إلى أدوات للتمييز أو المراقبة القسرية، كما تعمل المفوضية على تمكين الشباب والنساء وذوي الإعاقة من التعبير عن أصواتهم في مواجهة التمييز، وعلى دعم المجتمعات المحلية لبناء أنظمة أكثر عدالة ومشاركة.

تحذيرات حقوقية

المؤسسات الحقوقية الدولية والمحلية دقت ناقوس الخطر إزاء هذه التحديات، فقد شددت كل من منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش في تقارير حديثة على أن تراجع التمويل سيؤدي إلى "تآكل غير مسبوق" في منظومة الحماية الدولية لحقوق الإنسان، كما حذر خبراء القانون الدولي من أن أي إضعاف لدور المفوضية سيمنح الحكومات الاستبدادية مساحة أكبر لقمع الأصوات المعارضة بعيدًا عن الرقابة الدولية.

إحصاءات حديثة صادرة عن الأمم المتحدة تكشف أن أكثر من 110 ملايين شخص في العالم نزحوا قسرًا بسبب الحروب أو الاضطهاد حتى منتصف 2025، وهو رقم قياسي غير مسبوق، وفي الوقت ذاته، ارتفعت معدلات الفقر المدقع لتطال أكثر من 680 مليون شخص، في حين يواجه ما يزيد على 2 مليار إنسان انعدامًا للأمن الغذائي، وهذه الأزمات جميعها ترتبط بشكل مباشر بضعف آليات حماية الحقوق الأساسية، ما يجعل دور المفوضية أكثر مركزية من أي وقت مضى.

في النهاية، يظل السؤال المطروح ليس ما إذا كان العالم يحتاج إلى مفوضية حقوق الإنسان، بل كيف يمكن ضمان استمرارها وتعزيز دورها، ففي ظل صعود النزاعات الإقليمية والتوترات الدولية، ووسط اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، لا يمكن ترك الدفاع عن الكرامة الإنسانية لمعادلات التمويل السياسي أو الحسابات الاستراتيجية للدول، حماية حقوق الإنسان ليست رفاهية، بل هي الضمانة الأخيرة لاستقرار عالمٍ يواجه تحديات متشابكة ومتفاقمة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية