بين الوقاية والتعويض.. كيف تستجيب الحكومات لمنحنى الوفيات المرتفع بدخان حرائق الغابات؟
بين الوقاية والتعويض.. كيف تستجيب الحكومات لمنحنى الوفيات المرتفع بدخان حرائق الغابات؟
تشير أبحاث علمية حديثة إلى أن دخان حرائق الغابات سيصبح سبباً مباشراً لزيادة مقلقة في الوفيات عالمياً إذا استمر مسار الاحترار الحالي، وتقدّر دراسة دولية أن دخان الحرائق قد يقتل ما يصل إلى 1.4 مليون شخص سنوياً بحلول نهاية القرن في حال عدم خفض انبعاثات الاحتباس الحراري.
وتتوقع دراسة منفصلة عن الولايات المتحدة وفاة أكثر من 70 ألف شخص سنوياً بحلول 2050 بالمعدل الحالي للاحتباس، مقابل نحو 40 ألفاً سنوياً اليوم، وفق ما أوردته صحيفة "الغارديان" البريطانية الجمعة، وهذه الأرقام لم تعد مجرد توقعات بيئية، بل تنبّه إلى عبء صحي واقتصادي واجتماعي يتطلب تحركاً عاجلاً على مستوى السياسات والتمويل.
ما الذي يجعل دخان الحرائق أكثر فتكا؟
دخان حرائق الغابات يحتوي على سحب من الجزيئات الناعمة PM2.5 والمواد السامة الناتجة عن احتراق الغطاء النباتي والمواد العضوية، وتدخل هذه الجزيئات إلى عمق الجهاز التنفسي وتسبب تفاقماً في أمراض القلب والشرايين والرئتين، وتزيد مخاطر الوفاة المبكرة، وبعض الباحثين يشيرون إلى أن تركيب جسيمات دخان الحرائق يجعلها أكثر سمية مقارنة بملوثات الانبعاثات الأحفورية، كما أن التعرض المطوَّل أو المتكرر يترك أثراً صحياً طويل الأمد يتعدى مواسم الحريق.
المناخ والإنسان وإدارة الغابات
تتداخل عوامل طبيعية وبشرية في توسيع رقعة الحرائق: ارتفاع درجات الحرارة، وموجات الجفاف الممتدة، وتصاعد تواتر وشدة العواصف الحرارية نتيجة تغير المناخ، ومن جهة أخرى، يسهم توسع النطاق العمراني نحو المناطق الحرجية، وإهمال سياسات الوقاية وإدارة الوقود النباتي، والممارسات الزراعية والحروق المتعمدة في ازدياد التعرض، كما لعبت عقودٌ من سياسات إخماد الحرائق الصارمة دون إدارة وقائية واعتماد أفضل للممارسات المحلية والتقليدية دوراً في تراكم الوقود القابل للاحتراق.
تفاوت عالمي
لا يوزع عبء الوفيات الناتجة عن دخان الحرائق بالتساوي؛ فالدراسات تتوقع أن إفريقيا ستكون الأكثر تضرراً نسبياً، مع زيادة تصل إلى أحد عشر ضعفاً في بعض السيناريوهات، بينما ستشهد الولايات المتحدة وأوروبا تضاعفاً أو ارتفاعاً كبيراً في الوفيات، وتجارب 2023 أظهرت أن أعمدة الدخان العابرة للقارات تسببت بآلاف الوفيات في أوروبا نتيجة حرائق كندا، مما يؤكد أن الدخان لا يحترم الحدود وأن مسؤوليات المعالجة تتطلب تعاوناً دولياً.
تداعيات صحية واجتماعية واقتصادية
الأثر الصحي يشمل زيادة حالات الدخول إلى المستشفيات نتيجة أزمة التنفس، وتفاقم الأمراض المزمنة، ووفيات أطفال وكبار السن. اقتصادياً، تشير تقديرات إلى أن الولايات المتحدة قد تواجه خسائر سنوية تبلغ مئات المليارات (تقدير عن 608 مليار دولار بحلول 2050) بسبب تكاليف الرعاية الصحية وفقدان الإنتاجية وتأثيرات أخرى مرتبطة بدخان الحرائق. اجتماعياً، تؤدي موجات الدخان المتكررة إلى نزوح داخلي، وضياع سبل العيش الزراعية، وتأثيرات نفسية وجسدية على المجتمعات الأكثر هشاشة.
ردود الفعل الدولية ومنظمات الصحة وحقوق الإنسان
منظمة الصحة العالمية حذّرت مراراً من أضرار تلوث الهواء على الصحة، ودعت إلى إدماج مخاطرة الدخان في خطط الطوارئ الصحية، وتطالب برامج الأمم المتحدة الإنسانية ومنظمات إغاثة مثل الصليب الأحمر واللجنة الدولية للصليب الأحمر تطالب بتمويل طوارئ أكبر وتجهيز مراكز "هواء نقي" ومخزون من المستلزمات الطبية، من جانب حقوقي، ربطت منظمات مثل هيومن رايتس ووتش وأمنيستي بين المسؤولية المناخية وحقوق الإنسان، مشددة على أن الدول الملوِّثة تتحمل جزءاً من مسؤولية منع وفيات الدخان في دول الجنوب، وأن فشلها في التمويل والدعم يرقى إلى إخلال بحقوق الإنسان في الصحة والحياة.
الأطر القانونية والالتزامات الدولية
قانون حقوق الإنسان الدولي يكفل الحق في مستوى معيشي صحي والحق في الصحة والحياة؛ وفي 2021 اعترفت الأمم المتحدة رسمياً بالحق في بيئة صحية وآمنة، ذلك يفتح المجال أمام مطالبات سياسية وقانونية لمساءلة الجهات الملوِّثة وتوظيف آليات التعويض والتمويل الدولي، لا سيما من خلال آليات الخسائر والأضرار المرتبطة بتغير المناخ التي تكتسب زخمًا في المفاوضات الدولية، إضافة لذلك يتجه عدد متزايد من القضايا القضائية المناخية نحو تحميل الحكومات والشركات مسؤولية أضرارها الصحية والبيئية.
التخفيف والتكيّف والحماية الصحية
للحد من الخطر الطويل والقصير الأمد يلزم مزيج من سياسات التخفيف (خفض الانبعاثات) والتكيّف (إدارة الغابات، الوقاية من الحرائق، الإنذار المبكر)، على مستوى الصحة العامة، توصي وكالات الصحة بتوفير مكيفات فلترة HEPA في المدارس والمستشفيات، توزيع أقنعة فعالة (N95) للفئات المعرضة، تعزيز استجابة الطوارئ الصحية، وبرامج رصد التعرض والتأثيرات الصحية، وعلى مستوى إدارة الأراضي، تعتبر عمليات الحرق المراقب، وإزالة الوقود المتراكم، وإشراك المعارف المحلية والتقليدية أدوات لتقليل شدة الحرائق.
التمويل والعدالة المناخية
تتطلب الحلول موارد كبيرة، بما في ذلك تمويل التحول إلى اقتصاد منخفض الانبعاثات، ودعم برامج إدارة المخاطر المناخية في البلدان الضعيفة، كما يبرز بُعد العدالة: البلدان الأقل مسؤولية عن الانبعاثات هي الأكثر تعرضاً لوفيات الدخان، مما يعزز الدعوات لآليات تعويض وتمويل من الدول المتقدمة ولقنوات لتمويل الخسائر والأضرار.
الأرقام العلمية لا تحتمل التأجيل: بدون خفض جذري للانبعاثات وتعزيز تدابير الوقاية والحماية الصحية، سيتحوّل دخان حرائق الغابات إلى سبب وفاة هيكلي يضيف ملايين الأرواح سنوياً إلى حصيلة ضحايا الأزمات المناخية، وتجنب هذا السيناريو يتطلب قراراً سياسياً عالمياً يضع الصحة والعدالة في الصدارة، ويمثّل اختباراً حقيقياً لإرادة المجتمع الدولي في حماية الناس من تهديد يمكن تجنبه.