الضحايا لا يملكون ترف الانتظار.. تجميد المساعدات الأمريكية يفاقم أزمات الجوع والمرض

بعد قرار المحكمة العليا

الضحايا لا يملكون ترف الانتظار.. تجميد المساعدات الأمريكية يفاقم أزمات الجوع والمرض
المحكمة العليا الأمريكية - أرشيف

خرج قرار المحكمة العليا الأمريكية ليهزّ ليس فقط المشهد السياسي الداخلي، بل مصائر ملايين البشر حول العالم، فقد سمحت الأغلبية المحافظة في المحكمة للرئيس دونالد ترامب بتجميد ما يقرب من 5 مليارات دولار من المساعدات الخارجية، كانت قد خُصصت من قبل الكونغرس لبرامج الأمن الغذائي، والرعاية الصحية، ومساندة ضحايا التعذيب، وجهود التنمية.

وبينما يراه البيت الأبيض خطوة في إطار "السياسة الخارجية للرئيس"، يصفه الحقوقيون بأنه تجريد قاسٍ لمجتمعات ضعيفة من حقها في المساعدة والحياة الكريمة.

بحسب ما أوردته صحيفة "نيويورك تايمز"، فإن المحكمة العليا اعتبرت أن "مرونة الرئيس في الانخراط في الشؤون الخارجية تفوق الضرر المحتمل على متلقي المساعدات"، هذا التوصيف يكشف حجم المعضلة: فالقرار لا يتوقف عند حدود نزاع قانوني حول صلاحيات الإنفاق بين الكونغرس والرئيس، بل يتعداه إلى أثر مباشر في حقوق إنسانية أساسية لملايين يعيشون في مناطق أزمات.

أكدت المحكمة، في أمرها الموجز، أن حكمها "مؤقت" ريثما تستمر الإجراءات القضائية، غير أن القاضية إيلينا كاغان، في رأي مخالف انضمت إليه سونيا سوتومايور وكيتانجي براون جاكسون، كتبت أن "المخاطر كبيرة: فالمسألة تتعلق بتوزيع السلطة بين السلطة التنفيذية والكونغرس بشأن إنفاق الأموال العامة".

وحذّرت من أن التمويل الذي خصصه الكونغرس "لن يصل إلى منظمات المساعدة الأجنبية بغض النظر عن كيفية حل الدعوى الأساسية"، وهو ما يعني عمليًا، كما تشير "واشنطن بوست"، أن ملايين الدولارات المخصصة للغذاء والدواء والتنمية قد تنتهي دون أن تُنفق، تاركة وراءها فراغًا إنسانيًا قاتلًا.

ذريعة لتقويض الحقوق

ولا يعد هذا أول انتصار لترامب عبر ما يُعرف بـ"جدول أعمال الطوارئ" للمحكمة العليا، فقد وثّقت "واشنطن بوست" سلسلة من القرارات التي منحت الرئيس صلاحيات واسعة بشكل مؤقت، بدءًا من منع الجنود المتحولين جنسيًا من الخدمة العسكرية، وصولًا إلى إلغاء حماية مئات الآلاف من المهاجرين، لكن حين يتعلق الأمر بالمساعدات الخارجية، فإن التداعيات لا تبقى داخل الحدود الأمريكية، بل تمتد إلى قرى تعاني من الجوع، ومستشفيات تفتقر إلى الدواء، وبرامج إغاثة مهددة بالشلل.

ووفقًا لوكالة "أسوشيتد برس"، فإن ترامب استخدم ما يُعرف بـ"إلغاء الجيب"، وهي مناورة نادرة تسمح للرئيس بتعطيل إنفاق الأموال عبر تأجيل الإخطار إلى الكونغرس حتى نهاية السنة المالية، وبذلك، ينقلب القانون رأسًا على عقب: فبدلًا من أن يُلزم السلطة التنفيذية بصرف الأموال، يتحول صمت الكونغرس إلى ذريعة لإسقاطها.

وصف الحقوقيون هذا الالتفاف القانوني بأنه "تلاعب مؤسسي يُقوّض مبادئ فصل السلطات"، لكنه في جوهره حرمان مباشر للضعفاء من حقوقهم الإنسانية الأساسية.

وفي خضم هذا النزاع، ارتفعت أصوات منظمات الإغاثة الدولية، فقد نقلت "نيويورك تايمز" عن نيكولاس سانسون، المحامي في مجموعة التقاضي للمواطنين العامين والممثل لائتلاف مناصرة لقاح الإيدز، قوله إن القرار "يزيد من تآكل مبادئ فصل السلطات الأساسية لنظامنا الدستوري"، لكنه لم يتوقف عند الجانب الدستوري فقط، بل شدّد على أن الحكم سيكون له "تأثير إنساني خطير في المجتمعات الضعيفة في جميع أنحاء العالم".

وتبقى تقديرات هذه المنظمات واضحة: 4 مليارات دولار كانت موجهة لبرامج غذائية، ودعم تجاري للدول النامية، ومساعدات لضحايا التعذيب. الآن، ومع اقتراب انتهاء السنة المالية، فإن معظم هذه الأموال مهددة بالضياع.

ووفقًا لـ"أسوشيتد برس"، فإن القاضية كاغان نبّهت في اعتراضها إلى أن "النتيجة هي منع وصول الأموال إلى مستحقيها المقصودين، ليس الآن فحسب، بل (بسبب انتهاء صلاحيتها الوشيك) إلى الأبد".

أبعاد إنسانية تتجاوز الأرقام

لا يتعلق الأمر فقط بمبلغ مالي، بل بوجوه بشرية خلف كل رقم، كل دولار مجمّد كان يعني وجبة غذائية لطفل جائع، علاجًا لمصاب بفيروس نقص المناعة، أو تدريبًا لامرأة نجت من العنف، حين تُمنع هذه الأموال من الوصول، فإن ذلك يُترجم إلى تراجع في الحق في الغذاء، في الصحة، وفي الكرامة الإنسانية.

ووفقًا لتقارير "واشنطن بوست"، فإن إدارة ترامب قدّمت نفسها بأنها تسعى إلى "مواءمة الإنفاق مع أهدافها السياسية"، في حين رأى منتقدوها أنها تمارس "تجاوزًا على سلطتها"، في معركة تُحمَّل كلفتها للفئات الأكثر هشاشة.

هذا التضارب بين الرؤية السياسية والأثر الإنساني يعكس بوضوح كيف يمكن لقرار سياسي داخلي أن يتحول إلى انتهاك صامت وعابر للحدود لحقوق الإنسان.

الدستور والحقوق

ويكمن أحد أبرز أبعاد القضية في العلاقة بين الدستور الأمريكي والحقوق الإنسانية، فبحسب "نيويورك تايمز"، أوضحت القاضية كاغان أن "ثمن العيش في ظل دستور يمنح الكونغرس سلطة اتخاذ قرارات الإنفاق هو أن يتحمل أي رئيس هذا القيد".

لكن ما يحدث حاليًا هو أن صلاحيات الطوارئ ومرونة الرئيس في الشؤون الخارجية تُستخدم لتبرير تجميد أموال، ما يُقوّض قاعدة أساسية في النظام الدستوري: أن الإنفاق العام قرار تشريعي لا تنفيذي.

هذا التجاوز، كما تشير "أسوشيتد برس"، يفتح الباب أمام تساؤلات قانونية عميقة: هل هناك أصلًا سبيل لاختبار قرار السلطة التنفيذية بعدم إنفاق الأموال التي خصصها الكونغرس؟ وإذا كان الدستور لا يحمي هذا الحق التشريعي، فكيف يُمكن حماية الحق الإنساني الذي يقف خلفه؟

أزمات إنسانية مؤجلة

بينما تتواصل المعركة في المحاكم، فإن ضحايا القرار لا يملكون ترف الانتظار، ففي إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، تعتمد مجتمعات كاملة على برامج تمويلها من الولايات المتحدة، ويعنى قطع هذه المساعدات ببساطة انهيار شبكات أمان حيوية. وهو ما دفع حقوقيين إلى وصف القرار بأنه "حكم بالإفقار والتجويع"، حتى لو لم يُكتب بهذه الكلمات في سجلات المحكمة.

ووفقًا لـ"واشنطن بوست"، فإن الديمقراطيين في الكونغرس قدّروا أن نحو 430 مليار دولار من الإنفاق الفيدرالي أصبح معلقًا في عهد ترامب، لكن القضية الحالية حول المساعدات الخارجية أكثر خطورة، لأنها تمس جوهر صورة الولايات المتحدة في الخارج: هل تبقى "داعمًا للحقوق والتنمية"، أم تتحول إلى سلطة تُعيد تعريف التضامن الإنساني باعتباره "ترفًا سياسيًا"؟

يكشف قرار المحكمة العليا الأخير كيف يمكن لصراع على السلطة بين المؤسسات أن يتحول إلى معركة وجودية على حقوق الإنسان الأساسية، فالمسألة ليست تقنية محاسبية ولا مجرد نزاع دستوري، بل حياة ملايين تُعلّق على خيط رفيع من المساعدات.

وعلى الرغم من أن المحكمة اعتبرت قرارها مؤقتًا، فإن الواقع على الأرض يقول شيئًا آخر: الحقوق حين تُعلّق، تُسلب، وما لم يُدرك صناع القرار أن كل تجميد للتمويل هو تجميد للحياة نفسها، فإن الخاسر الأكبر لن يكون الكونغرس ولا الرئيس، بل الأطفال والنساء والمرضى الذين كانوا ينتظرون غذاءً أو دواءً أو دعمًا للبقاء.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية