مدن تُهجّر ومستشفيات تُدمر.. تداعيات الانتهاكات على حياة المدنيين في جنوب السودان
مدن تُهجّر ومستشفيات تُدمر.. تداعيات الانتهاكات على حياة المدنيين في جنوب السودان
حذّر المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك من تدهور حادّ في الأوضاع الحقوقية في جنوب السودان، منوهاً بأن موجة من العنف المتصاعد منذ بداية العام أودت بحياة ما يقارب ألفي مدنٍ مدني، وأضاف أن الأرقام الموثّقة حتى سبتمبر تُظهر 1,854 قتيلاً و1,693 جريحاً و423 مختفياً قسرياً و169 ضحية عنف جنسي على الأقل، مع توقع أن تكون الحصيلة الحقيقية أعلى بكثير بسبب عوائق الوصول إلى مناطق النزاع، وفق المفوضية السامية لحقوق الإنسان.
هذا الإنذار يثير قلقاً خاصاً لأن هذه الحصيلة تأتي في ظل هشاشة سلامٍ موقّعٍ عام 2018 (الاتفاق المُجدّد) كان قد أعطى أملاً بنهاية سنوات من الحرب الأهلية ويقضي بآليات لتقاسم السلطة ودمج القوات وإجراء إصلاحات قضائية وأمنية، وانهيار فعلي لهذا الاتفاق يعني عودة الصراعات المفتوحة وتوسيع دائرة الانتهاكات ضد المدنيين الذين يتحملون العبء الأكبر.
أسباب تصاعد العنف
تتداخل عوامل محلية وإقليمية وعسكرية لتغذي تصاعد العنف في جنوب السودان منها تصاعد الهجمات الجوية والحملات البرية، صراعات على النفوذ بين قيادات سياسية وعسكرية متنافسة، عودة التمركز العرقي والميل لاحتواء الخلافات بالقوة، فضلاً عن ضغوط اقتصادية وتنافس على الموارد، ومنذ مارس أفادت تقارير بتكثيف القصف الجوي في ولايات مثل جونقلي ووِراب وولايات حوض نهر السوبيري، ما أدّى إلى مآسٍ إنسانية محلية وضاعف موجات النزوح حالة القتال هذه ترافقت مع عمليات أرضية بين قوات حكومية ومسلحين مرتبطين بخصوم سياسيين، وهو ما يسرّع وتيرة القتل والاختطاف والعنف الجنسي.
أدت غارات جوية وهجمات مسيّرة إلى تدمير مرافق حيوية، أبرزها قصف مستشفى ومخازن أدوية في منطقة فانجاك في مايو، حيث أدت ضربة على مشفى تابع لمنظمة أطباء بلا حدود إلى مقتل وجرح مدنيين وتدمير صيدلية المستشفى، ما ترك عشرات آلاف الناس بلا رعاية طبية في منطقة نائية تعاني أساسًا نقصًا حاداً في الخدمات الصحية، وأدانت “أطباء بلا حدود” والمنظمات الإنسانية والأمم المتحدة الهجوم، وأشارت إلى أنه قد يرقى إلى مستوى خرق جسيم لقواعد القانون الدولي الإنساني.
انعكاسات إنسانية مباشرة وعميقة
الآثار على المدنيين متعددة ومستدامة: موجات نزوح داخلية كبيرة وتدمير منازل ومدارس ومراكز صحية ومرافق زراعية، ما يفاقم انعدام الأمن الغذائي ويزيد من حالات الأمراض القابلة للوقاية. الأرقام التي وثقتها مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان من يناير إلى سبتمبر تظهر ارتفاعاً بنسبة 59% في الضحايا مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي، ما يعكس ترديًا سريعًا في حماية السكان المدنيين، ويعني العنف الجنسي المستمر، والاعتقالات والاختطاف، وتعطل أنظمة التعليم والصحة، تزايد الحاجة إلى خدمات الحماية النفسية والتأهيل، مع إمكانات ضئيلة للمنظمات الإنسانية لمجابهة الاحتياجات المتزايدة.
في ظل هذا التصعيد، بدأت محاكمات بحق قادة سياسيين وعسكريين بارزين؛ أبرزها افتتاح محاكمة نائب الرئيس الأول ريك مشار بتهم تشمل الخيانة والقتل وجرائم ضد الإنسانية في 22 سبتمبر الجاري، ونشوء قضايا جنائية رفيعة المستوى في هذه اللحظة يمكن أن يرفع من درجة الاحتقان السياسي ويُنظر إليه محلياً كخطوة قد تقوّض تنفيذ الاتفاقية إذا لم تُجرَ المحاكمات بشفافية وتتوافق مع معايير العدالة الدولية، وطالبت منظمات حقوقية دولية بضرورة إجراءات قضائية عادلة تحترم ضمانات المحاكمة العادلة لتجنب مزيد من تصعيد العنف.
ردود المنظمات الحقوقية والأمم المتحدة
نددت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بتصاعد العنف في جنوب السودان وطلبت من الأطراف التحلي بضبط النفس والإبقاء على الاتفاقية حية، كما دعت المجتمع الدولي والهيئات الإقليمية إلى تحرّك عاجل لمنع انزلاق البلاد نحو حرب شاملة، وطالبت منظمات دولية، بينها هيومن رايتس ووتش وأمنستي، بضمانات حقوقية في المحاكمات وبحماية المدنيين، فيما ندّت منظمات إنسانية للهجمات على المرافق الطبية وطالبت بالتحقيق في الخروقات المحتملة للقانون الدولي الإنساني.
تقع على عاتق جميع الأطراف التزامات واضحة بموجب القانون الدولي الإنساني وقواعد حماية المدنيين، بما في ذلك التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية وحماية العاملين في الرعاية الصحية والمدارس، كما تُعد الجرائم الجسيمة مسؤولية جنائية دولية قد تخضع لآليات محاسبة إذا ما أدّت الأدلة إلى وجود جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، احترام إجراءات المحاكمة العادلة وحيادها والشفافية في الملاحقات القضائية ضروريان لمنع استغلال القضاء كأداة للتصفية السياسية.
توصيات قابلة للتنفيذ
تؤكد المنظمات الحقوقية ضرورة وقف فوري للهجمات ضد المدنيين والبنية التحتية المدنية وتقديم ضمانات فورية لحماية المستشفيات والمدارس والمساعدات الإنسانية، وكذلك ضمان وصول مستقل وآمن للفرق الإنسانية والمحققين الدوليين إلى المناطق المتضررة لتوثيق الانتهاكات وتقديم الدعم، مع إجراء محاكمات متوافقة مع المعايير الدولية مع إشراف دولي أو رقابة مستقلة لتفادي انتهاك اتفاقية 2018 أو تغذية انتقامية، إضافة إلى توسيع جهود الوساطة الإقليمية والدولية لإعادة تفعيل آليات تنفيذ الاتفاقية ومعالجة جذور الخلاف السياسي والعرقي.
تحذير فولكر تورك ليس مجرد بيان رقمّي؛ إنه مؤشر تحوّل قد يقود جنوب السودان إلى دوامة عنف جديدة بعد سنوات من النزف، فحماية المدنيين، وضمان المحاسبة العادلة، وإبقاء آليات السلام فعّالة، هي شروط لا غنى عنها لمنع تكرار مأساة إنسانية أوسع، وعلى المجتمع الدولي، وفق ما تطالب به أمانة حقوق الإنسان والمنظمات الميدانية، أن يتحرك الآن بشمولية وبإجراءات ملموسة قبل أن يُصبح الانهيار الكامل أمراً واقعاً بحسب ما حذرت المفوضية السامية لحقوق الإنسان.