وسط أزمة إنسانية مركبة.. العصابات تستقطب الشباب في جنوب السودان
وسط أزمة إنسانية مركبة.. العصابات تستقطب الشباب في جنوب السودان
في بلد لم يكد يخرج من الحرب الأهلية حتى وجد نفسه غارقاً في أزمات متشابكة من العنف والجوع والفقر، يكشف مشهد الشباب في جنوب السودان عن صورة معقدة لبلد يتأرجح بين الاضطرابات الاجتماعية والانهيار الإنساني.
وفي تقرير نشرته "الغارديان" البريطانية، عُرضت مشاهد صادمة من شوارع العاصمة جوبا، حيث تنتشر عصابات شبابية تُعرف محلياً باسم "تورونغ بويس"، هذه العصابات، التي تهيمن على أحياء كاملة، تمثل انعكاساً مباشراً لتفشي البطالة، وغياب فرص التعليم، والاضطرابات الأمنية.
وفي يونيو، انتشر مقطع فيديو يوثق عملية اغتصاب جماعي وحشي نفذها مجموعة من هؤلاء الشباب ضد فتاة مراهقة، ما أثار حالة غضب واسعة، وكشف هشاشة الأوضاع الأمنية والاجتماعية.
لكن هذا الانزلاق نحو العنف ليس سوى وجه من وجوه أزمة أوسع نطاقاً، إذ تشير بيانات منظمة "العمل ضد الجوع" إلى أنّ جنوب السودان يسجل واحداً من أعلى معدلات انعدام الأمن الغذائي في العالم، حيث يحتاج أكثر من 7 ملايين شخص إلى مساعدات غذائية عاجلة.
ووفق المنظمة، يعاني الأطفال على وجه الخصوص من مستويات قياسية من سوء التغذية الحاد، وهو ما يعمّق دائرة الفقر والعنف التي يقع فيها الشباب.
فراغ اجتماعي خطير
بحسب "الغارديان"، فإن شباب العصابات في جوبا يعيشون في فراغ اجتماعي خطير.. لا فرص عمل، ولا أنظمة دعم مجتمعية، ولا مؤسسات قادرة على احتوائهم، ومع تصاعد الصراع في مناطق متعددة من البلاد، يجد هؤلاء أنفسهم مجبرين على اللجوء إلى العنف كوسيلة للبقاء، أو للبحث عن هوية وسط الفوضى.
وصف أحد الناشطين المحليين، الذين نقلت عنهم الصحيفة، المشهد بقوله: "لقد تُرك هؤلاء الشباب بلا أمل، بينما الدولة غائبة، والمجتمع الدولي منشغل، ليجدوا أنفسهم في مواجهة مصير قاسٍ بلا خيارات سوى العصابات والسلاح".
وتضيف منظمة العمل ضد الجوع في تقاريرها أن الجوع المتفاقم في جنوب السودان ليس مجرد أزمة إنسانية، بل أصبح عاملاً رئيسياً في تغذية العنف، فغياب الغذاء يدفع العائلات إلى تفكيك نفسها، ويضطر الشباب إلى الانضمام إلى مجموعات مسلحة أو عصابات مقابل الحصول على وجبات طعام أو مصدر رزق ضئيل.
وتوضح المنظمة أن الأزمات المناخية المتكررة، من فيضانات وجفاف، دمّرت الأراضي الزراعية، وأدت إلى نفوق الماشية، وهو ما ترك ملايين الأشخاص بلا مصادر غذاء مستقرة.
وتُقدر المنظمة أن أكثر من 1.4 مليون طفل في جنوب السودان يواجهون خطر سوء التغذية الحاد خلال هذا العام وحده.
أزمة إنسانية مركبة
في موازاة ذلك، أصدرت الأمم المتحدة تقارير متكررة حول الوضع الإنساني في جنوب السودان، مؤكدة أن البلاد تشهد "واحدة من أعقد الأزمات الإنسانية في العالم".
وبحسب الأمم المتحدة، فإن النزوح الداخلي بسبب العنف، جنباً إلى جنب مع الفيضانات المتكررة، أدى إلى تشريد مئات الآلاف من السكان، فيما يعيش الملايين على المساعدات الإنسانية وحدها.
ووفق المنظمة، فإن ما يقرب من 70% من سكان جنوب السودان يواجهون مستويات خطيرة من انعدام الأمن الغذائي، بينما يتعرض الأطفال والنساء على نحو خاص لمخاطر العنف الجنسي والاستغلال.
يعكس المشهد في جنوب السودان تقاطع أزمتين حقوقيتين متداخلتين: من جهة، تفشي العنف الجنسي والمسلح، ومن جهة أخرى، الانتهاك الصارخ للحق في الغذاء والحياة الكريمة، هذا التلازم بين "العنف والجوع" يجعل من المستحيل معالجة أحدهما دون الآخر.
شدد تقرير "الغارديان" على أن تفشي عصابات الشباب ليس مجرد ظاهرة جنائية، بل هو نتيجة مباشرة لانهيار الدولة، وغياب برامج الإدماج المجتمعي، وإهمال حقوق الإنسان الأساسية، فيما أكدت منظمة العمل ضد الجوع أن غياب الأمن الغذائي يهدد استقرار البلاد بأكملها، ويجعل أي جهد لبناء السلام عرضة للفشل.
نساء وأطفال بمرمى الخطر
وبحسب الأمم المتحدة، النساء والفتيات في جنوب السودان يتحملن العبء الأكبر من الأزمة، فالعنف الجنسي، الذي وثّقته مقاطع الفيديو، ليس حادثة معزولة، بل جزءاً من نمط متكرر تعكسه شهادات الناجيات والمنظمات الحقوقية.
وإلى جانب ذلك، تعاني النساء من أدوار اجتماعية تضاعف هشاشتهن في مواجهة الجوع، حيث تُترك الأمهات في كثير من الأحيان لمواجهة مأساة تغذية أطفالهن بموارد شبه معدومة.
وتُظهر تقارير منظمة العمل ضد الجوع أن سوء التغذية بين الأطفال يقود إلى ارتفاع معدلات الوفيات، كما يعوق النمو الجسدي والعقلي لجيل كامل، ما يعني أن البلاد تواجه خطر "جيل ضائع" غير قادر على قيادة مستقبلها.
المجتمع الدولي
رغم التحذيرات المتكررة من الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية، ما زالت الاستجابة الدولية للأزمة في جنوب السودان متواضعة، فتمويل خطط الإغاثة يعاني من فجوات كبيرة، حيث لم يُغطَّ سوى جزء يسير من النداءات الإنسانية السنوية.
وتشير الأمم المتحدة إلى أن هذا القصور في التمويل يجعل ملايين الأشخاص عُرضة لمزيد من الكوارث، إذ لا يمكن توفير الغذاء الكافي، ولا بناء برامج مستدامة لتأهيل الشباب أو إعادة إدماجهم في المجتمع.
يقف جنوب السودان اليوم على مفترق طرق خطير، فإما أن يتحقق تدخل دولي جاد يعالج جذور الأزمات عبر دعم حقوق الإنسان الأساسية للشباب والنساء والأطفال، أو يواصل البلد الانحدار في دوامة من العنف والجوع والانهيار.
والمشهد كما تنقله الغارديان ومنظمة العمل ضد الجوع والأمم المتحدة ليس مجرد سرد لأزمات متفرقة، بل لوحة متكاملة لمأساة إنسانية تضرب في العمق قيم الكرامة والعدالة، وتضع على عاتق المجتمع الدولي مسؤولية لا يمكن التنصل منها.