لا أحد في مأمن.. كيف تعزل الصين المدافعين عن حقوق الإنسان عن العالم الخارجي؟

لا أحد في مأمن.. كيف تعزل الصين المدافعين عن حقوق الإنسان عن العالم الخارجي؟
الصين

 

في مناسبة اليوم الوطني للصين، كشفت منظمة العفو الدولية (أمنستي) في تقريرٍ جديدٍ عن الوجه المظلم للمؤسسة القضائية في البلاد، مؤكدة أن المحاكم الصينية لم تعد تمثل حصناً للعدالة بقدر ما تحولت إلى أدوات قمع ممنهج تستهدف المدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين والمحامين والمعارضين وكل من يجرؤ على التعبير السلمي.

التقرير المنشور الأربعاء استند إلى تحليل أكثر من 100 وثيقة قضائية في 68 قضية خلال العقد الماضي، يقدم أدلة دامغة على أن القضاء في الصين يعمل كامتداد مباشر لسياسات السلطة التنفيذية، بعيداً عن أي استقلالية يفترض أن يتحلى بها.

قوانين غامضة وأحكام مسبقة

يكشف التقرير أن أكثر من 90% من القضايا التي جرت مراجعتها استندت إلى قوانين غامضة وفضفاضة تتعلق بالأمن القومي والنظام العام، مثل تهم "تقويض أمن الدولة" أو "إثارة الفوضى"، وهذه المصطلحات، التي لا تتماشى مع معايير القانون الدولي لحقوق الإنسان، حيث منحت السلطات ذريعة لتجريم أنشطة سلمية تماماً، من كتابة مقالات على مدونات شخصية إلى المشاركة في دورات تدريبية خارج البلاد.

بحسب منظمة العفو الدولية، لم يكن جوهر هذه التهم سوى انتقاد الحكومة أو التواصل مع العالم الخارجي، ما حوّل النشاط الحقوقي السلمي إلى تهديد أمني في نظر النظام، وهذا الاتجاه يضع الصين في مواجهة مباشرة مع التزاماتها الدولية، خصوصاً في إطار العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي ينص على حماية حرية التعبير والتجمع السلمي.

المحاكمات كساحة قمع

في 67 من أصل 68 قضية، صدرت أحكام بالإدانة، وغالباً بأحكام سجن قاسية تراوحت بين 18 شهراً و19 عاماً، وكثير من هذه القضايا جرى فيها حرمان المتهمين من حقهم في اختيار محاميهم أو حتى مقابلة أسرهم، فيما تعرض آخرون للاختفاء القسري عبر ما يسمى "الإقامة الجبرية في مكان محدد"، وهو إجراء وصفته الأمم المتحدة بأنه شكل من أشكال التعذيب.

وتشير المنظمة إلى أن العديد من المحاكمات جرت خلف أبواب مغلقة بذريعة "الأمن القومي"، حتى في قضايا لا علاقة لها بأسرار الدولة، ما عمّق مناخ الإفلات من المساءلة، والأسوأ أن بعض الأحكام تضمنت عقوبات إضافية، مثل الحرمان من الحقوق السياسية بعد انتهاء فترة السجن، بما يحظر على الناشطين ممارسة أي نشاط مدني أو سياسي حتى بعد إطلاق سراحهم.

حقوق الإنسان كجريمة

أبرز التقرير حالات متعددة تؤكد النهج المنهجي لتحويل الدفاع عن الحقوق إلى جريمة، ففي إحدى القضايا، حُكم على محامٍ متخصص في قضايا حقوق الإنسان بالسجن لتمثيله عائلات معتقلين في قضايا سياسية حساسة، وفي حالة أخرى، حُكم على ناشطة نسوية بتهمة "تحريض التخريب" لنشرها مقالات حول حقوق المرأة، أما حالة ليو شياوبو، الحائز جائزة نوبل للسلام، فتمثل أبرز مثال حين حُكم عليه بالسجن 11 عاماً لدوره في صياغة "ميثاق 08" الذي دعا إلى إصلاحات ديمقراطية.

الاتصالات الدولية كخطر أمني

أكثر من نصف القضايا تضمنت تهمة "التعاون مع قوى أجنبية"، حيث اعتبرت السلطات مجرد مقابلة صحفي أجنبي أو تلقي دعم رمزي من منظمة غير حكومية خارجية دليلاً على التآمر، وفي إحدى الحالات، عُد نشر مقال في موقع إخباري خارجي محظور أصلاً داخل الصين إخلالاً بالنظام العام، وهذا السلوك يوضح محاولة السلطات عزل المدافعين عن حقوق الإنسان عن المجتمع الدولي، وحرمانهم من التضامن الخارجي أو الدعم المعنوي.

ردود الفعل الدولية

أثار التقرير ردود أفعال واسعة في الأوساط الحقوقية الدولية، فقد دعت هيومن رايتس ووتش إلى "تشكيل ضغط دولي منسق" لإجبار الصين على احترام التزاماتها الحقوقية، كما شدد مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة على ضرورة مراجعة القوانين الصينية المتعلقة بالأمن القومي، مشيراً إلى أنها "تستخدم كأداة لقمع حرية التعبير وليس لحماية المجتمع".

في المقابل، تتذرع الحكومة الصينية بأن الإجراءات القضائية ضرورية لحماية "الاستقرار الاجتماعي"، مؤكدة أن أي نشاط "يمس الأمن القومي" لن يُسمح به، لكن هذه التبريرات، بحسب منظمة العفو، مجرد غطاء لتبرير قمع المعارضة السلمية وإسكات الأصوات المستقلة.

منذ حملة "القضاء على الانحرافات اليمينية" في خمسينيات القرن الماضي، استخدمت الصين القضاء كأداة سياسية، لكن منذ عام 2015، مع دخول قانون الأمن القومي حيز التنفيذ، توسع نطاق الملاحقات القضائية ليشمل أي نشاط يُعتبر تحدياً لسلطة الحزب الحاكم، خلال العقد الأخير، ازدادت وتيرة الاعتقالات التي تستهدف المدافعين عن حقوق الإنسان، خصوصاً بعد احتجاجات هونغ كونغ عام 2019، حيث استخدمت السلطات القوانين المتعلقة بالأمن القومي لقمع المعارضة السياسية والإعلامية بشكل أوسع.

أبعاد إنسانية

وراء الأرقام والإحصاءات، تقف معاناة إنسانية عميقة، حيث كشفت تقارير موثقة أن بعض المعتقلين حُرموا من الرعاية الطبية أو تعرضوا للتعذيب الجسدي والنفسي أثناء الاحتجاز، وأفادت نساء مدافعات عن حقوق الإنسان بتعرضهن لتحرش وإيذاء جسدي بهدف كسر عزيمتهن، كما تعيش عائلات النشطاء أيضاً تحت وطأة المراقبة والترهيب، حيث يمنع الأطفال من إكمال تعليمهم أو تُفرض قيود على تنقل أفراد الأسرة.

مطالب دولية متجددة

أكدت منظمة العفو الدولية أن الصين مطالبة بإلغاء المواد الغامضة في قانون العقوبات، مثل "التخريب" و"إثارة الفتنة"، وإصلاح شامل للقوانين المرتبطة بالأمن القومي، كما دعت إلى الإفراج الفوري عن جميع المعتقلين بسبب ممارستهم السلمية لحقوقهم.

وأضافت المنظمة أن ما يجري في المحاكم الصينية يبعث برسالة خطيرة مفادها أن "لا أحد في مأمن"، وأن التضييق لا يطول فقط السياسيين بل يمتد ليشمل المحامين والمدافعين والكتّاب، أي كل من يسعى لتوسيع الهامش المدني.

يبين تقرير منظمة العفو الدولية أن القضاء في الصين، بدلاً من أن يكون ضمانة للعدالة، أصبح أحد أبرز أدوات القمع الممنهج. وبينما يواصل المدافعون عن حقوق الإنسان نضالهم بشجاعة، فإن المجتمع الدولي أمام اختبار صعب: إما أن يكتفي بالمراقبة أو أن يتحرك بجدية للضغط على بكين لاحترام التزاماتها الحقوقية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية