وسط انتهاكات متصاعدة.. هل ينجح المجتمع الدولي في حماية حقوق الإنسان بالكونغو؟
وسط انتهاكات متصاعدة.. هل ينجح المجتمع الدولي في حماية حقوق الإنسان بالكونغو؟
في قلب إفريقيا، تتواصل معاناة جمهورية الكونغو الديمقراطية وسط تصاعد الصراع المسلح، حيث تقف حماية حقوق الإنسان أمام تحديات متفاقمة تعصف بما تحقق خلال عقود من العمل الأممي والوطني في مجال سيادة القانون والعدالة الانتقالية، والأزمة الحالية لا تهدد فقط حياة المدنيين في مناطق النزاع، بل تنذر بانهيار منظومة حقوقية بُنيت بشق الأنفس على مدى ثلاثة عقود، لتجد البلاد نفسها اليوم أمام خطر العودة إلى دوامة العنف والانتهاكات الجماعية.
اندلعت الأزمة الراهنة مع توسع نفوذ حركة "23 مارس" المسلحة، المدعومة وفق تقرير أورده موقع الأمم المتحدة الإعلامي في نسخته الإنجليزية الأربعاء من قوات الدفاع الرواندية، وهذا التمدد العسكري أدى إلى هجمات ممنهجة في شرق البلاد، وأسفر عن مقتل قضاة ومحامين وشهود، وتدمير الأدلة الجنائية، وإطلاق سراح مرتكبي جرائم جسيمة، وبذلك، تعرضت منظومة العدالة التي عملت المنظمات الحقوقية على بنائها منذ التسعينيات لضربة قوية تهدد بتقويض الثقة في مؤسسات الدولة، وتعزيز مناخ الإفلات من العقاب.
تاريخياً، لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تهز فيها النزاعات المسلحة أسس الدولة، فخلال حرب الكونغو الثانية (1998– 2003)، شهدت البلاد واحدة من أكثر النزاعات دموية منذ الحرب العالمية الثانية، حيث قُتل ملايين المدنيين نتيجة المعارك والمجاعة والأمراض، واليوم، يرى كثير من المراقبين أن مسار الأحداث الحالية يحمل تشابهاً مقلقاً مع تلك الحقبة، خاصة مع اتساع رقعة النزوح وتفشي العنف الجنسي وتجنيد الأطفال.
تداعيات إنسانية واجتماعية
تؤكد تقارير الأمم المتحدة أن أكثر من 6.9 مليون شخص نزحوا داخلياً بسبب الصراع، وهو أكبر عدد من النازحين داخلياً في إفريقيا حالياً، وفي مدينة غوما، التي كانت يوماً مركزاً تجارياً مزدهراً، يعيش مئات الآلاف من النازحين في ظروف قاسية تفتقر إلى الغذاء الكافي، والمياه النظيفة، والرعاية الصحية الأساسية، ويتصدر الأطفال والنساء قائمة الضحايا، حيث تتعرض الفتيات والنساء بشكل خاص للعنف الجنسي الذي يُستخدم كسلاح حرب لترويع المجتمعات وتفكيك نسيجها الاجتماعي.
الأزمة الاقتصادية تزيد الطين بلة؛ إغلاق الطرق التجارية وتعطيل الزراعة والتعدين –وهما مصدران رئيسيان للدخل– أديا إلى انهيار سبل العيش لملايين الأسر، وتفيد منظمات الإغاثة بأن جيلا كاملا من الأطفال بات مهدداً بفقدان التعليم، مع غلق المدارس وتحويل بعضها إلى ملاجئ للنازحين.
مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان وثّقت انتهاكات جسيمة في مناطق النزاع، وأكدت أن مكاسب السنوات الثلاثين الماضية في مكافحة تجنيد الأطفال، والتصدي للعنف الجنسي، ومحاربة الإفلات من العقاب، تتلاشى أمام تصاعد الصراع والعنف المسلح.
في تقاريرها الأخيرة المقدمة إلى مجلس حقوق الإنسان، شددت المفوضية على أن نقص التمويل المزمن يهدد قدرتها على مواصلة الرصد، وإغلاق مكاتبها في مناطق مثل أوفيرا يترك فراغاً خطيراً في توثيق الانتهاكات وتقديم الأدلة.
المنظمات الدولية الأخرى، مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، أعربت عن قلقها من أن استمرار الهجمات على المدنيين والمؤسسات القضائية قد يفتح الباب أمام تصعيد واسع النطاق للعنف، محذرة من أن تجاهل المجتمع الدولي للوضع سيقود إلى كارثة إنسانية أكبر.
القانون وواجب الحماية
وفق القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف، تلتزم الأطراف المتحاربة بحماية المدنيين وتوفير الممرات الآمنة للمساعدات الإنسانية، كما أن مجلس الأمن الدولي سبق أن أقر قرارات تؤكد ضرورة محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة في الكونغو الديمقراطية، غير أن هذه الالتزامات لا تزال حبراً على ورق في ظل ضعف آليات التنفيذ، وانقسام المواقف الدولية، وتراجع التمويل المخصص لمراقبة حقوق الإنسان.
المفوضية الأممية لحقوق الإنسان حذرت من أن تقليص الموارد لا يعني فقط تراجع الرصد والتوثيق، بل أيضاً فقدان الأدوات الأساسية للمساءلة والعدالة الانتقالية، الأمر الذي يهدد بإشعال "عدالة الغوغاء" وتجدد دوائر الانتقام الأهلي.
الدعوات تتزايد لزيادة التمويل المخصص لحماية حقوق الإنسان في الكونغو الديمقراطية، حيث تؤكد المفوضية أن أي دعم إضافي يمكن أن يسهم في توسيع عملها، وتعزيز المنظمات المحلية، ووقف حلقة العنف عبر آليات وقائية، وقد أثبتت المبادرات السابقة، مثل إنشاء الخط الساخن الذي يديره مكتب الرئيس للتصدي للعنف الجنسي، فاعليتها حين توفرت الموارد، وهو ما يعكس أهمية استمرار التمويل وتوسيعه.
كما يطالب خبراء حقوق الإنسان بضرورة ربط المساعدات الإنسانية والاقتصادية بمساءلة أطراف النزاع، وفرض عقوبات محددة على الأفراد والجماعات المتورطة في الانتهاكات، هذا النهج، برأيهم، قد يشكل ضغطاً حقيقياً لوقف الانتهاكات الممنهجة، إلى جانب تعزيز دور المجتمع المدني المحلي الذي غالباً ما يكون خط الدفاع الأول عن المجتمعات المتضررة.
مستقبل على المحك
أمام هذا المشهد القاتم، تبدو جمهورية الكونغو الديمقراطية عند مفترق طرق، فإما أن يستجيب المجتمع الدولي بمزيد من الدعم والإصرار على حماية حقوق الإنسان، أو أن تُترك البلاد لمصيرها في مواجهة تصاعد الانتهاكات ودوامة العنف.
وتؤكد المنظمات الحقوقية أن حماية حقوق الإنسان ليست رفاهية في زمن الحرب، بل هي شرط أساسي لمنع الانزلاق نحو كارثة إنسانية أعمق، فالكونغو الديمقراطية، بثرواتها الطبيعية الهائلة وموقعها الاستراتيجي في قلب إفريقيا، قد تكون قادرة على التعافي إذا ما توفرت الإرادة السياسية والدعم الدولي اللازم، لكن استمرار تجاهل الأزمة، وترك مؤسسات حقوق الإنسان دون تمويل أو حماية، قد يرسخ واقعاً مظلماً لجيل جديد محاصر بالعنف والنزوح وانعدام الأمل.