الذكاء الاصطناعي.. كيف يعيد الاقتصاد الآلي صياغة الحق في العمل؟
الذكاء الاصطناعي.. كيف يعيد الاقتصاد الآلي صياغة الحق في العمل؟
بدأت موجة التحول الاقتصادي التي أحدثها الذكاء الاصطناعي تهز أسس سوق العمل العالمي، فيما تتسابق الشركات الكبرى إلى الاستغناء عن البشر لصالح الخوارزميات، ففي الوقت الذي احتفت فيه شركات التكنولوجيا بـ"الثورة الرقمية الجديدة"، كشفت الوقائع عن جانبٍ مظلمٍ يتجاوز الأرقام إلى جوهر الحقوق الإنسانية الأساسية؛ الحق في العمل، والعدالة الاجتماعية، والحماية من التمييز.
في مايو الماضي، أعلنت شركة "أي بي أم" عن تسريح مئات الموظفين واستبدالهم بروبوتات دردشة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، لحقت بها شركة "سيلزفورس" سريعًا، فقلّصت أعداد موظفيها متذرعةً بـ"الكفاءة التقنية".
وحتى عمالقة الخدمات مثل "يو بي أس" و"جا بي مورغان" و"وينديز" بدؤوا في تقليص الوظائف البشرية لصالح الأنظمة المؤتمتة، ومع هذا التسارع، يتزايد شعور العاملين بالخوف من المجهول، في وقتٍ لم تضع فيه الحكومات بعد سياسات قادرة على حماية هذا الحق الأساسي؛ حق الإنسان في عمل كريم وآمن.
أزمة للعدالة الاقتصادية
أظهر تقرير نشرته مجلة "فورين أفيرز"، اليوم الاثنين، أن التحول القائم على الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد احتمال تقني، بل أصبح قضية سياسية وحقوقية ملحّة، فبينما يُجادل الاقتصاديون حول ما إذا كانت الأتمتة ستؤدي إلى فقدان الوظائف أم إلى خلق فرص جديدة، تظل النتيجة الفعلية واحدة: ملايين العمال مهددون، ومجتمعات بأكملها تواجه خطر التهميش.
تُظهر استطلاعات رأي حديثة في الولايات المتحدة وكندا أن غالبية المواطنين باتوا يخشون فقدان وظائفهم لصالح الآلات، ويطالبون الحكومات بتدخل عاجل، وتُبرز نتائج الاستطلاعات -نقلتها فورين أفيرز- أن القلق من الذكاء الاصطناعي تفوّق على جميع المخاوف الأخرى المرتبطة بالتكنولوجيا، بما في ذلك استخدامها العسكري.
لكن المفارقة أن أغلب المشاركين في الاستطلاع أيّدوا سياسات "التمكين" مثل إعادة التدريب وتوسيع شبكات الأمان الاجتماعي، أكثر من سياسات المنع أو الإقصاء، فالعامل لا يخشى التكنولوجيا بقدر ما يخشى أن يُترك وحيدًا في مواجهتها دون حماية أو بدائل.
حماية الحق في العمل
يقول التقرير إن الاستجابة الفعّالة يجب أن تبدأ بسياسات تعيد تأهيل العمال لا إقصاءهم، فقد فضّل المشاركون في الاستطلاع برامج إعادة التدريب على أي خيار آخر، مؤكدين أن مواجهة الذكاء الاصطناعي لا تكون بالحظر، بل بالتكيف.
لكن الواقع أكثر قتامة، فالحكومات لم تُنشئ حتى الآن أنظمة تدريب كافية، ولم تُقر تشريعات شاملة تنظم الذكاء الاصطناعي باستثناء تجربة الاتحاد الأوروبي، وفي الولايات المتحدة، تتجه الإدارة الحالية لتقليص البرامج الاجتماعية، بما في ذلك التأمين الصحي والمساعدة الغذائية، في الوقت الذي يحتاج فيه ملايين العمال إلى دعم إضافي.
يعني هذا أن الدولة تُخفق في الوفاء بالتزاماتها الأساسية بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذي يكفل "الحق في العمل وفي الحماية من البطالة"، فحين يُستبدل العامل بالآلة دون خطة انتقال عادلة، لا تكون المسألة اقتصادية فقط، بل انتهاكًا صريحًا لحق إنساني أصيل.
من الأتمتة إلى الشعبوية
تحذر المجلة الأمريكية من أن التقاعس عن معالجة هذه الأزمة قد يقود إلى "اقتصاد الغضب"، حيث يتحول الإحباط الشعبي إلى وقود للشعبوية، فحين يفقد الناس الثقة في قدرة الدولة على حمايتهم، يلجأون إلى من يَعِدهم بالانتقام لا بالإصلاح.
ويكشف التقرير أن بعض السياسيين قد يجدون في هذه الأزمة فرصة لتمرير سياسات إقصائية، مثل تقييد الهجرة أو فرض رسوم جمركية، متذرعين بحماية المواطنين من "الروبوتات الأجنبية" أو "المنافسة غير العادلة"، غير أن هذه الإجراءات، كما يؤكد التقرير، لن توقف الأتمتة بل قد تسرّعها، لأنها تزيد من تكاليف العمالة وتشجع الشركات على الاعتماد على الذكاء الاصطناعي لتقليل النفقات.
كما تمثل هذه النزعة الإقصائية تهديدًا مزدوجًا: فهي تُعمّق التمييز ضد المهاجرين، وتُحوّل الغضب الاجتماعي المشروع إلى كراهية تُغذي الانقسام وتُضعف أسس الديمقراطية.
إعادة تشكيل العمل
أما صحيفة "الغارديان"، فقد تناولت القضية من زاوية مختلفة لكنها مكملة، فهي ترى أن الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل مفهوم العمل نفسه، لا فقط أسواقه، فالتكنولوجيا لا تُغير طريقة الإنتاج فحسب، بل تُعيد تعريف من يُعتبر "عاملًا" في الأساس.
وتحذر الصحيفة من أن الاعتماد المتزايد على الأتمتة قد يؤدي إلى انقسام جديد بين من يتحكمون في الخوارزميات ومن يخضعون لقراراتها، وهذا الانقسام لا يُقاس بالأجور فقط، بل بالكرامة الإنسانية، فحين يُستبدل الإنسان بنظام لا يمكنه التظلم ضده أو محاسبته، يُصبح الحق في العدالة والمساءلة في مهبّ الخطر.
وتشير "الغارديان" إلى أن الخطوط الفاصلة بين "الذكاء الاصطناعي المساعد" و"الذكاء الاصطناعي المُسيطر" تتلاشى تدريجيًا، فبينما تُستخدم هذه الأنظمة في التوظيف، والمراقبة، وتقييم الأداء، بات العامل تحت رحمة خوارزمية لا يملك فهمها ولا الطعن في قراراتها، وهو ما يثير تساؤلات قانونية عميقة حول مسؤولية الدولة والشركات في حماية خصوصية العاملين وحقوقهم الأساسية في الإنصاف والكرامة.
فجوة أخلاقية
تؤكد كل من "فورين أفيرز" و"الغارديان" أن المشكلة لم تعد اقتصادية بحتة، بل هي أخلاقية وحقوقية في جوهرها، فحين يُختزل الإنسان في رقم ضمن نظام خوارزمي، تضيع القيم التي بُنيت عليها الحركات العمالية والمواثيق الدولية.
وتشير إلى أن غياب التشريعات العادلة يُحوّل الذكاء الاصطناعي إلى أداة لعدم المساواة، فالشركات التي تُحقق أرباحًا هائلة بفضل الأتمتة لا تُسهم في تعويض المتضررين منها، ومن ثمّ، يُصبح من الضروري فرض ضرائب على شركات الذكاء الاصطناعي لتمويل برامج إعادة التدريب والتأمين الاجتماعي في إطار "عدالة انتقالية رقمية" تضمن ألا يُترك أحد خلف الركب.
وتختتم فورين أفيرز تقريرها بتحذير واضح: "الوقت ينفد" فالتكنولوجيا تتقدم بسرعة، والسياسات تتأخر أكثر، وإذا لم تتدخل الحكومات اليوم بسياسات ذكية وعادلة، فلن تُواجه أزمة وظائف فقط، بل أزمة ثقة عميقة بين المواطن والدولة.
وفي الوقت ذاته، تُذكّر الغارديان بأن الحل لا يكمن في كبح الابتكار، بل في توجيهه نحو خدمة الإنسان لا استبداله، فالمستقبل الذي يضمن الحق في العمل ليس مستقبلًا بلا روبوتات، بل مستقبلاً لا يُقصي البشر من المعادلة.