كمبوديا في ورطة الديون.. ممارسات التمويل الأصغر تخنق الفقراء وتفاقم أزمة حقوق الإنسان
كمبوديا في ورطة الديون.. ممارسات التمويل الأصغر تخنق الفقراء وتفاقم أزمة حقوق الإنسان
تشهد كمبوديا أزمة حادة في قطاع التمويل الأصغر، حيث يتجاوز عدد الأسر التي حصلت على أكثر من ثلاثة ملايين قرض صغير حوالي 3.8 مليون أسرة في عام 2024، بقيمة إجمالية تجاوزت ثمانية عشر مليار دولار أمريكي، وهذه القروض، التي تُقدَّم غالباً للفقراء والمجتمعات الأصلية والأشخاص الذين لا يملكون موارد كافية، يفترض بها أن تدعم المشاريع الصغيرة أو تحل أزمات الطوارئ، لكنها بدلًا من ذلك فاقمت أزمة حقوق الإنسان حيث أوصلت كثيرين إلى ما يُعرف بالدَّوامة المالية.
تقرير نشرته هيومن رايتس ووتش في نسختها الإنجليزية تُبيِّن أن مؤسسات التمويل الأصغر الكمبودية، بعضها بدعم من مستثمرين محليين ودوليين، مُنِحت صلاحية استخدام القروض بشكل مكثّف في المجتمعات الأصلية، حيث يُسوِّق لهذه القروض على أنها طريق للخروج من الفقر، إلا أن الواقع المُدوَّن بالشهادات العاجلة يُظهر أن كثيرين من المقترضين لا يستطيعون قراءة أو كتابة اللغة الرسمية الخميرية، ولا يفهمون شروط القرض، بما في ذلك أسعار الفائدة، والرسوم، أو طبيعة الضمانات، خاصة عندما تُستخدم سندات ملكية الأراضي –أحيانًا ما يُعرف بـ“soft titles”– كضمان مقابل هذه القروض، حتى وإن كانت الأراضي مشتركة أو جماعية تحت نظام قانوني يُتيح تسجيل أراضٍ جماعية للشعوب الأصلية.
الأسباب: اقتصاد هش ومراقبة ضعيفة
من عوامل الأزمة أن الفقر الهيكلي بين السكان الأصليين في المناطق الريفية يجعلهم يعتمدون على القروض لاحتياجات أساسية، مثل الرعاية الصحية أو الطعام أو دفع رسوم التعليم أو مصاريف مفاجئة، مثل الكوارث الزراعية، والتغيرات المناخية التي تؤثر على محاصيلهم تجعل الدخل غير ثابت، ومع انخفاض فرص العمل البديلة، يسعى الناس إلى القروض كحل سريع، رغم المخاطر.
مقابل هذا الواقع، تشير التقارير إلى أن الإطار التنظيمي لقطاع التمويل الأصغر في كمبوديا يعاني من ثغرات جوهرية، وجهات الإقراض غالبًا ما تمارس الضغوط لتحفيز تسديد الديون باستخدام طرق تحصيل قاسية تشمل التهديد ببيع الأراضي أو الاحتفاظ بها كضمان، أو استخدام التهديد القانوني والتدخل المحلي، دون شفافية كافية أو إشراف مستقل يحقق حماية المستهلك، والمستثمرون الدوليون، بما في ذلك الذراع الاستثمارية للبنك الدولي “مؤسسة التمويل الدولية” IFC، استمروا في ضخ استثمارات كبيرة في هذا القطاع رغم ما ظهرت من مخاوف متكررة حول الإفراط في الدين ومخاطر الاستغلال.
التداعيات على أرض الواقع
الشهادة الميدانية تُظهر أن بعض المقترضين في مقاطعة راتاناكيري في شمال شرق كمبوديا، من الشعوب الأصلية مثل شعب كوي، فضلوا ترك الدراسة لأطفالهم للعمل، حيث الأسرة غير قادرة على تغطية التزامات القرض والتكاليف اليومية، وأفادت حالات مجمعة بأن بعض المقترضين اضطروا لبيع أراضٍ كانت ملكًا جماعيًا، فقدان وسائل كسب العيش، تقليص الإنفاق على الغذاء إلى حدّ الجوع، وزيادة حالات الانتحار الناجمة عن اليأس من الديون.
التقرير الأخير من هيومن رايتس ووتش يوثّق أن 3.8 مليون أسرة تحمل أكثر من 3 ملايين قرض صغير في كمبوديا، بمعدل قرض متوسط يزيد على خمسة آلاف وثمانمئة دولار أمريكي، وهو ما يتجاوز أربع مرات متوسط الدخل السنوي للفرد في كمبوديا الذي يُقارب ألفا وأربعمئة دولار، هذا الاختلاف بين قدرة السداد والالتزامات المالية يجعل كثيرًا من المقترضين في موقف لا يُحسد عليه.
ردود الأفعال الحقوقية والمحلية والدولية
المنظمات الحقوقية المحلية مثل "LICADHO" و"Equitable Cambodia" رفعوا شكاوى إلى أمين المظالم في مؤسّسة التمويل الدولية، طالبوا فيها بتحقيق مستقل يُلزم المتسببين في الضرر بتعويض المقترضين، وإلغاء الصفقات التي أدّت إلى خسارة الأراضي، وتحسين الشفافية في العقود وشروط القرض.
منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش نادت بإجراءات فورية لمراجعة ممارسات القروض الأصغر في كمبوديا، مع وضع ضوابط واضحة لمنع استخدام الأراضي المشتركة كضمان، وحماية حقوق الشعوب الأصلية لضمان موافقة حرة ومستقلة قبل القرض.
أما مؤسسات التمويل الدولية، مثل IFC، فقد أقرّت بصوتها بأن هناك مخاوف مشروعة تتعلق بالديون المفرطة والتحصيل القسري، وقد أشار تقرير التحقيق التمهيدي لمكتب المظالم (CAO) التابع لها إلى أن هناك مؤشرات أولية على أن المؤسسة لم تلتزم ببعض معاييرها الاجتماعية والبيئية خاصة في ما يتعلق بحماية المستهلكين ومخاطر استخدام الأراضي الجماعية.
الإطار القانوني الدولي والمعايير القانونية
القانون الدولي لحقوق الإنسان يفرض التزامات على الدول والمؤسسات الخاصة على حدّ سواء لحماية الأشخاص من ممارسات ضارة اقتصادية واجتماعية، كما أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يقرّان بحق كل إنسان في مستوى معيشي لائق، والتعليم، والصحة، والحماية من الفقر.
في كمبوديا، قانون الأرض لسنة 2001 وقانون تسجيل أراضي الشعوب الأصلية عام 2009 ينصان على حقوق جماعية ومشاركة في التصديق على الأراضي الجماعية، لكن الإقراض باستخدام "soft titles" يتعارض مع مبادئ استخدام الأراضي الجماعية دون موافقة مستقلة، ويدخُل في تعارض مع قوانين الملكية الجماعية.
مؤسسة التمويل الدولية، بحسب تقرير هيومن رايتس ووتش، لديها إطار معايير الأداء يُفترض أن يلتزم به الممولون، خاصة المعيارين الأول والسابع المتعلقين بالمجتمعات الأصلية، بينما يمكن أن تُستخدم هذه المعايير كأداة مساءلة، إلا أن التنفيذ والتطبيق الفعلي لهما فجوات كبيرة.
كيف تحوّل المشروع التنموي إلى أزمة؟
نشأة التمويل الأصغر في كمبوديا كانت في سبعينيات القرن الماضي كمبادرات غير ربحية قدمتها منظمات مانحة ومنظمات غير حكومية لإعانة الفقراء، حيث كانت الشروط بسيطة، القروض غالبًا بلا ضمانات، وكان الهدف تنمويًا، ومع مرور الوقت تحوّل القطاع إلى مجال مربح للمستثمرين المحليين والدوليين، وتوسع الطلب على القروض بفعل الفراغ الاقتصادي والحاجة، فظهرت مؤسسات تمويل أصغر تفعل ما هو أبعد من تقديم الدعم، إذ تسوّق القروض بصورة مكثفة، وتستخدم الضمانات العقارية وكأنها عقود استثمارية معقدة قد لا يفهمها غالبية المقترضين.
كما أن تجنّب تنظيم فعّال من الدولة والمراقبين، إضافة إلى ضعف الإمكانيات القانونية للمقترضين خصوصًا أولئك غير الملمّين باللغة الرسمية أو الذين لا يمتلكون القدرة القانونية للدفاع، أسهم في تكريس ممارسات استغلالية، التاريخ الذي شهد انفتاحًا تنمويًا ودمجًا اقتصاديًا مع شركاء أجانب سرعان ما تحول إلى تاريخ من احتجاجات مفوّتة، وطلبات مستمرة للحماية القانونية والعدالة.
التداعيات الإنسانية طويلة المدى
العائلات التي تجد نفسها تُجرّدت من أراضيها أو تعرضت لخسائر اقتصادية تفوق قدرتها على التعويض تعيش إذلالًا يوميًّا، الفقر يجبر الأمهات على إرسال الأطفال إلى العمل بدل المدرسة، ما يُنهك فرص الأجيال القادمة ويُفكّك النسيج الاجتماعي، الجوع يتسلل إلى المنازل، الرعاية الصحية تُرفض أو تُؤجّل، والثقة في المؤسسات تتقهقر، حالات انتحار مسجّلة تعكس اليأس الذي يشعر به البعض أمام أعباء الديون التي لا تنتهي، والدعوات إلى الانتحار كخيار أخير لمن لا يجد متنفسًا.
كما أن فقدان الأراضي لا يعني فقط خسارة مادية، بل خسارة هوية مجتمعية وثقافية، خصوصًا عند الشعوب الأصلية التي تربط الأرض بممارسة تقاليدها وأساليب حياتها، التي تكون قد مضى عليها عقود وربما قرون، عندما تُستخدم الأراضي الجماعية كضمان، يُمسّ البناء الاجتماعي نفسه، حيث يُقطع صلة الإنسان بأرضه وتاريخه.
ينبغي للدولة أن تشدد التشريعات التي تنظّم التمويل الأصغر، وأن تفرض مراقبة صارمة للمؤسسات التي تتعامل بالديون، وأن تضع آليات مستقلة للشكاوى والتظلم، وتعمل على ضمان أن العقود والقروض تُوقع بعد فهم كامل وشروط شفافة، ولا تُستخدم الضمانات العقارية الجماعية دون موافقة حرة ومسبقة ومطلعة.
تقرير هيومن رايتس ووتش يُعدّ دعوة عاجلة لإعادة تقييم نموذج التمويل الأصغر في كمبوديا، خصوصًا في مجتمعات السكان الأصليين التي تحملت العبء الأكبر.