طالبان تنقض وعد العفو.. تحقيقات تكشف استمرار القتل الممنهج للعسكريين السابقين

طالبان تنقض وعد العفو.. تحقيقات تكشف استمرار القتل الممنهج للعسكريين السابقين
عناصر في حركة طالبان الأفغانية

بعد أكثر من ثلاث سنوات على عودة حركة طالبان إلى الحكم في كابول، يتكشف يومًا بعد يوم حجم الانتهاكات التي تُمارس ضد العسكريين والضباط السابقين في الجيش والشرطة الأفغانية، رغم الوعود الرسمية بالعفو العام. 

تحقيق مشترك أجرته عدة مؤسسات إعلامية دولية ومحلية، منها "إندبندنت" البريطانية و"هشت صبح" و"اطلاعات روز" و"ميليتري تايمز" و"لايت هاوس ريبورتس"، كشف أن ما لا يقل عن مئة وعشرة من أفراد الجيش الأفغاني السابق قُتلوا خلال العامين الماضيين على يد طالبان في عمليات ممنهجة تفتقر لأي أساس قانوني أو إنساني وفق ما أوردته "أفغان إنترناشيونال".

التحقيق الذي استغرق ستة أشهر أظهر أن هذه الجرائم تتركز في ولايات كابل وقندهار وننكرهار وبلخ وهلمند، وهي المناطق التي شهدت في السابق أعنف المعارك بين طالبان والقوات الحكومية المدعومة من التحالف الدولي.

وتُشير النتائج إلى أن العدد الحقيقي للضحايا قد يكون أكبر بكثير، إذ يمنع الخوف المستشري بين أسر القتلى والناجين توثيق العديد من الحالات.

الانتقام بدل المصالحة

عند سيطرتها على السلطة في أغسطس 2021، أعلنت حركة طالبان عفوًا عامًا عن جميع من خدموا في الحكومة السابقة أو تعاونوا مع القوات الأجنبية، في محاولة لبث الطمأنينة بين المواطنين ولإقناع المجتمع الدولي بقدرتها على إدارة دولة لا ثأر فيها، إلا أن ما تبين لاحقًا هو أن هذا العفو لم يكن سوى إعلان سياسي أجوف، سرعان ما انقلب إلى حملة تصفية منظمة، فالعسكريون السابقون، خصوصًا عناصر الوحدات الخاصة والاستخبارات، أصبحوا هدفًا للانتقام، وراح كثير منهم يُعتقلون ليختفوا بعدها أو يُعثر على جثثهم في ضواحي المدن.

سنجر سهيل، مالك صحيفة "هشت صبح"، قال إن من يعود من العسكريين السابقين إلى أفغانستان "يختفي فورًا أو يُعثر على جثته بعد أيام"، مؤكّدًا أن هذه الظاهرة أصبحت ممنهجة وليست حالات فردية.

وتصف شهادات مماثلة جمعتها منظمات محلية مشهدًا مروّعًا لعناصر أُعدموا ميدانيًا، بعضهم بعد تعذيب قاسٍ، ومنهم علي گل حيدري، القائد السابق في القوات الخاصة، الذي اعتُقل ثم قُتل أمام أسرته بعد محاصرة منزله في كابل.

انكشاف الوعود

تقرير بعثة الأمم المتحدة للمساعدة في أفغانستان "يوناما" وثّق منذ عودة طالبان إلى الحكم أكثر من مئتي حالة قتل خارج نطاق القضاء بحق أفراد سابقين في الجيش والشرطة ومسؤولين حكوميين، إضافة إلى حالات اعتقال تعسفي وتعذيب واختفاء قسري، واعتبرت الأمم المتحدة أن هذه الأفعال "تشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني ولاتفاقيات جنيف"، مؤكدة أن الوعود المعلنة من طالبان حول حماية المعارضين السابقين "لا تنعكس في الواقع الميداني".

وأصدرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" تقريرًا مطلع العام الحالي جاء فيه أن حركة طالبان تواصل استهداف العسكريين السابقين بشكل انتقامي ومنهجي، وأن بعض جرائم القتل تمت بعد وعود رسمية من قادة محليين بتأمين سلامة الضحايا، ووصفت المنظمة هذه السياسة بأنها "استراتيجية انتقامية صامتة"، تستغل ضعف الرقابة الدولية وتراجع الاهتمام العالمي بأفغانستان منذ الانسحاب الغربي.

أما منظمة العفو الدولية فاعتبرت أن ما يجري هو عملية تصفية ممنهجة تهدف إلى "محْو آثار النظام السابق"، وأن صمت المجتمع الدولي على هذه الانتهاكات يشكل "تشجيعًا غير مباشر للإفلات من العقاب".

مسؤولية طالبان والرد الرسمي

في المقابل، تنفي حركة طالبان بشكل متكرر وجود سياسة رسمية لاستهداف العسكريين السابقين، وتقول إن بعض الحوادث "نتاج خلافات محلية أو عمليات انتقام فردية" لا تمثل توجه الحكومة، إلا أن مراقبين حقوقيين يشيرون إلى أن هذا النمط من الانتهاكات، والذي يتكرر في ولايات متعددة، لا يمكن أن يحدث بمعزل عن معرفة القيادات الأمنية العليا.

وفي تصريحات متفرقة لوسائل إعلام محلية، أكد مسؤولون في وزارة الداخلية التابعة لطالبان أنهم شكلوا لجانًا للتحقيق في "بعض الحوادث الفردية"، غير أن نتائج هذه التحقيقات لم تُعلن للرأي العام، ولم تسفر عن أي محاسبة تُذكر، وهو ما يُثير شكوكًا حول جدية الحركة في معالجة الملف.

وتسببت هذه الممارسات في موجة جديدة من الخوف بين العسكريين السابقين وعائلاتهم، حيث يعيش كثيرون منهم متخفّين أو فارّين إلى الخارج عبر الحدود مع باكستان وإيران، في الأحياء الفقيرة من كابل وهرات، تسكن أسر الضباط السابقين في عزلة تامة خوفًا من الملاحقة، في حين يعيش آخرون بلا مصدر دخل بعد مصادرة رواتبهم ومنازلهم، هذه المعاناة لا تتوقف عند الجانب الأمني، بل تمتد إلى أبعاد نفسية واجتماعية عميقة، إذ يشعر من خدموا الدولة الأفغانية لسنوات بأنهم تُركوا لمصيرهم دون حماية من المجتمع الدولي الذي تعاونوا معه.

دوليًا، يرى خبراء أن استمرار هذه الانتهاكات يقوّض أي محاولة لدمج طالبان في النظام الدولي، ويُضعف فرص الاعتراف الرسمي بحكومتها في الأمم المتحدة، كما يحول دون استئناف المساعدات التنموية المجمدة منذ عام 2021، حيث تشترط الدول المانحة احترام حقوق الإنسان بوصفه أساساً لأي تعامل سياسي أو اقتصادي.

مسؤولية القانون الدولي

في خضم هذه الأحداث، تبرز تساؤلات قانونية حول مسؤولية المجتمع الدولي تجاه العسكريين السابقين في أفغانستان الذين تعاونوا لسنوات مع قوات التحالف في إطار الحرب على الإرهاب، ووفق القانون الدولي الإنساني، يُعد قتل الأسرى أو المستسلمين أو الموظفين السابقين عملاً يشكل جريمة حرب إذا تم بشكل منظم وعلى نطاق واسع، وقد دعت الأمم المتحدة مرارًا إلى فتح تحقيقات مستقلة وتقديم المسؤولين عنها إلى العدالة، إلا أن غياب سلطة قضائية مستقلة داخل أفغانستان يجعل هذه النداءات أقرب إلى الصدى في الفراغ.

ويرى خبراء القانون الدولي أن المحكمة الجنائية الدولية يمكنها، نظريًا، النظر في بعض هذه الجرائم باعتبارها جرائم ضد الإنسانية، لكن التطبيق العملي ما زال معقدًا في ظل عدم تعاون سلطات طالبان وعدم توفر آليات حماية للشهود أو الضحايا داخل البلاد.

جراح مفتوحة ومستقبل غامض

بعد مرور أكثر من ثلاثة أعوام على وعود العفو، تبدو أفغانستان غارقة في دوامة الانتقام، حيث تُدفن الحقائق في الظلال ويُدفن معها أمل العدالة، وتواصل عائلات العسكريين القتلى البحث عن إجابات، والناجون يعيشون على أمل أن تتوقف آلة العنف، في حين يزداد الوضع الإنساني تدهورًا مع استمرار النزوح الداخلي والفقر وانهيار مؤسسات العدالة.

ورغم أن طالبان تحاول الظهور بمظهر السلطة المستقرة التي تسيطر على الأوضاع، فإن استمرار القتل الممنهج للعسكريين السابقين يكشف هشاشة بنيتها السياسية والأمنية، ويهدد بإبقاء البلاد رهينة لعقود جديدة من الخوف والصمت والدماء.

منذ سقوط الحكومة الأفغانية في أغسطس 2021 ودخول طالبان إلى كابول، شهدت البلاد تحوّلات عميقة شملت انهيار الجيش الوطني الذي كان يضم أكثر من 300 ألف جندي وضابط، كانت هذه القوات العمود الفقري لأمن الدولة، وقد تلقت تدريبًا ودعمًا من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي على مدى عقدين كاملين، ومع انسحاب القوات الدولية، وجد عشرات الآلاف من هؤلاء العسكريين أنفسهم بلا حماية ولا مصدر رزق، في حين واجه كثير منهم تهديدات مباشرة من طالبان التي رأت فيهم خصوم الأمس.

وفي وقت كان العالم فيه منشغلًا بأزمات أخرى، تراجع الاهتمام الدولي بالملف الأفغاني، ما ترك ضحايا الانتهاكات في عزلة قاسية. واليوم، بعد مضي سنوات على سقوط كابول، تبدو الجراح أبعد ما تكون عن الالتئام، وسط استمرار الصمت الرسمي والغياب التام للمساءلة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية