الحق في غذاء آمن.. تحقيقات تكشف انهيار الحماية الغذائية بالمدارس الإندونيسية
بعد إصابة أكثر من 9 آلاف طالب في 2025
أطلقت الحكومة الإندونيسية واحدًا من أضخم البرامج الاجتماعية في تاريخها، لتوفير وجبات غذائية مجانية في المدارس تحت شعار (MBG) أي "الوجبات المغذية المجانية"، بهدف تحسين تغذية الأطفال والنساء الحوامل في بلد يضم أكثر من 270 مليون نسمة.
لكن ما كان يُفترض أن يكون خطوة نحو تحقيق الحق في الغذاء، تحوّل إلى أزمة صحية واسعة كشفت عن هشاشة الضمانات الأساسية لسلامة الغذاء في المؤسسات التعليمية.
وثّقت "نيويورك تايمز" أن آلاف الأطفال في مقاطعة جاوة الغربية عانوا من تسمم غذائي بعد تناولهم وجبات البرنامج التي ضمّت دجاجًا مقليًا وأرزًا وخسًا وفراولة، وتجاوز عدد المصابين 1300 طفل في منطقة سيبونغكور وحدها أواخر سبتمبر، في حين نُقل العشرات إلى عيادات مؤقتة بعد أن عانوا من الغثيان والقيء وصعوبة التنفس.
روت "كوكو مولياتي"، وهي أم لأحد المصابين، أن ابنها البالغ من العمر 17 عامًا "لم يستطع التنفس وشعر أن جسده يحترق" بعد تناوله الوجبة المجانية، وأكدت أن مئات الأطفال كانوا يتلقون العلاج في الوقت ذاته داخل المراكز الصحية المؤقتة.
مسؤولية الدولة
أقرّ الرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو بأن البرنامج واجه أوجه قصور أدت إلى تسمم غذائي، لكنه دافع عنه بوصفه مشروعًا وطنيًا "يخدم 30 مليون مستفيد" وقال في تصريحات نهاية سبتمبر: "هناك حالات تسمم، لكن نسبة الخطأ لا تتجاوز 0.00017%".
ردّ الخبير الغذائي تان شوت ين على هذا التصريح: "هامش الخطأ هذا مقبول في مصنع أحذية، لكننا نتحدث عن أرواح بشرية".
أكدت التحقيقات أن بعض الوجبات الموزعة كانت ملوثة ببكتيريا السالمونيلا وبكتيريا العصوية القيحية، وأظهرت مقاطع فيديو انتشرت في جاوة الغربية عمال مطابخ يغسلون الصواني بمياه راكدة وصابون غير مخصص للأدوات الغذائية.
وثّق مركز مبادرات التنمية الاستراتيجية في إندونيسيا ما يقرب من 11500 حالة تسمم غذائي مرتبطة بالبرنامج، وأوضحت المؤسسة أن غياب الإطار التنظيمي هو جوهر الأزمة، إذ "لا توجد لوائح أو معايير واضحة، وكل شيء يُترك للتأويل"، كما صرّحت ضياء سامينارسيه، مؤسسة المركز.
توسّع بلا ضوابط
قدّرت "نيويورك تايمز" ميزانية البرنامج بنحو 335 تريليون روبية (20 مليار دولار أمريكي) بحلول عام 2026، بهدف الوصول إلى 83 مليون مستفيد وإنشاء 32 ألف مطبخ، لكن التوسع السريع، دون تعزيز الرقابة، فاقم الخلل الإداري، بحسب نائبة رئيس الوكالة الوطنية للتغذية نانيك إس. ديانغ التي اعترفت بأن "عمليات التفتيش كانت غير كافية"، مضيفة: "أهملنا المراقبة ونعتذر عن ذلك".
أكدت الدكتورة تان شوت ين ضرورة تقديم وجبات محلية صحية بدلًا من الأطعمة فائقة التصنيع مثل النقانق والبسكويت، وقالت إن "أحد أهداف البرنامج هو التثقيف الغذائي للأطفال، لكن الممارسة الحالية تُهدد الهدف نفسه".
ومن جانبها، أشارت ضياء سامينارسيه إلى أن "زيادة عدد المستفيدين دون معالجة العيوب التشغيلية لن يؤدي إلا إلى مضاعفة الضحايا، بدلًا من تحقيق الأثر الإيجابي الذي أُعلن عنه".
الغضب الشعبي
كشفت "رويترز" ، مؤخراً أن حالات التسمم الغذائي بلغت 9089 طفلًا في أنحاء إندونيسيا حتى نهاية سبتمبر 2025، وهو رقم أعلى بكثير من التقديرات الأولية التي أعلنتها الحكومة (6000 حالة).
أعلن رئيس هيئة الغذاء والدواء الإندونيسية، تارونا إكرار، أمام البرلمان أن "الزيادة الحادة في حالات التسمم بدأت منذ نهاية يوليو، بسبب ضعف المعايير في المطابخ الجديدة"، موضحًا أن معظم تلك المطابخ لم يمضِ على تشغيلها سوى شهر واحد فقط.
وأضاف أن التحقيقات كشفت عن "توزيع وجبات بعد أكثر من أربع ساعات من الطهي، وتخزين غير سليم للمكونات، وانخفاض الوعي بسلامة الغذاء".
وأكد رئيس الوكالة الوطنية للتغذية، دادان هندايانا، أن "المطابخ كانت تنتهك المعايير بشراء المكونات قبل أربعة أيام بدلًا من يومين من الموعد المحدد"، مشيرًا إلى أن 6517 طفلًا أصيبوا بالتسمم الغذائي في الفترة من يناير إلى سبتمبر.
وقال النائب إيدي ووريانتو إن 36 مطبخًا فقط من أصل 8000 مطبخ حصلت على شهادة النظافة والصرف الصحي، في حين دعا النائب آدي ريزكي براتاما إلى تقليل عدد الطلاب الذين يخدمهم مطبخ واحد لضمان مراقبة أفضل.
التسمم الجماعي
من جانها وثّقت "جاكرتا بوست"، وهي صحيفة اندونيسية ناطقة بالإنجليزية، في سبتمبر، أن أكثر من 800 طالب أُصيبوا خلال أسبوع واحد في حالتين من التسمم الجماعي، إحداهما في جاوة الغربية، حيث أصيب 569 طالبًا من خمس مدارس، وأخرى في سولاويزي الوسطى طالت 277 طفلًا.
وأوضح المتحدث باسم الرئاسة، براسيتيو هادي أن الحكومة "تعتذر عن تكرار الحوادث في عدة مناطق، وهو أمر لم يكن مقصودًا".
وأشارت الصحيفة إلى أن البرنامج توسّع بسرعة ليشمل أكثر من 20 مليون مستفيد في مرحلته الأولى، بميزانية بلغت 171 تريليون روبية (10.32 مليار دولار)، على أن تُضاعف الميزانية العام المقبل.
وأكدت الوكالة الوطنية للتغذية تعليق توزيع الوجبات مؤقتًا في المناطق التي شهدت حالات تسمم حادة، مع استبدالها بأطعمة أساسية بسيطة مثل الخبز والحليب والبيض والفواكه.
الحق في الغذاء الآمن
تُعيد هذه الأزمة طرح سؤال أساسي حول التزامات الدولة الإندونيسية تجاه الحق في الغذاء الآمن، كما نصّت عليه المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتي تُلزم الحكومات بضمان "توافر الغذاء الكافي من حيث الكمية والجودة، دون الإضرار بالصحة"، لكن الوقائع تكشف عن إخلالٍ جوهري بهذه الالتزامات، نتيجة غياب الرقابة المسبقة وسوء إدارة الموارد.
وتُبرز تصريحات المسؤولين أن الحق في الغذاء الآمن تحوّل إلى معركة بين الأهداف السياسية والرعاية الصحية، فبينما يرى الرئيس برابوو سوبيانتو في البرنامج "إنجازًا قوميًّا" يعزز صورة الدولة، يرى خبراء الصحة أنه مثال على تسييس السياسات الغذائية على حساب حقوق المواطنين.
وتُظهر الوقائع أن ما يحدث ليس مجرد أزمة غذائية، بل انتهاك واضح لحق الأطفال في بيئة آمنة وصحية، إذ لم تقتصر الأضرار على التسمم اللحظي، بل امتدت إلى فقدان الثقة في المؤسسات التعليمية وفي قدرة الدولة على حماية الصغار من المخاطر التي تُهدد حياتهم اليومية.
ويتفق خبراء حقوق الإنسان في إندونيسيا على أن الحق في الغذاء لا يُختزل في توفير وجبات مجانية، بل يتطلب ضمان سلامتها وجودتها، وغياب التشريعات الرقابية وتحميل القوات المسلحة مسؤولية تنفيذ البرنامج -كما أشار تقرير نيويورك تايمز- يُظهر انزلاقًا إداريًا خطيرًا يخلّ بمبدأ المساءلة.
وقالت الباحثة ضياء سامينارسيه: "لا يمكن تحقيق الصحة العامة دون التزام سياسي، لكن لا يجب إساءة استخدام هذا الالتزام".