القضاء يوقف خطة ترامب لتقليص وظائف "صوت أمريكا".. معركة على الإعلام وجدل حول الرسالة
القضاء يوقف خطة ترامب لتقليص وظائف "صوت أمريكا".. معركة على الإعلام وجدل حول الرسالة
في خطوة قضائية لافتة، أصدر القاضي الاتحادي رويس لامبرث في واشنطن العاصمة حكماً يقضي بتعليق مؤقت لخطة إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الرامية إلى إلغاء مئات الوظائف في الوكالة الأمريكية للإعلام العالمي، الهيئة المشرفة على شبكة "صوت أمريكا"، ويمنع القرار، الصادر يوم الاثنين، تنفيذ تسريح 532 موظفاً بدوام كامل كان من المقرر أن يدخل حيّز التنفيذ صباح اليوم الثلاثاء، وهو ما يمثل الغالبية العظمى من القوة العاملة المتبقية داخل الوكالة وفق وكالة الأنباء الألمانية.
تأسست "صوت أمريكا" عام 1942 لمواجهة الدعاية النازية خلال الحرب العالمية الثانية، قبل أن تتحول لاحقاً إلى منصة رئيسية تبث بأكثر من 40 لغة حول العالم، بهدف تقديم "أخبار دقيقة وموضوعية ومتوازنة"، على مدى عقود، عُدّت الوكالة أداة دبلوماسية ناعمة للولايات المتحدة في مواجهة الاتحاد السوفيتي السابق والدعاية الشيوعية، ثم لاحقاً في التصدي للتطرف وخطاب الكراهية.
لكن خطة الإدارة الجمهورية الأخيرة لإعادة هيكلة الوكالة عبر تسريح جماعي للموظفين أثارت مخاوف عميقة بشأن مستقبل هذا الدور، ومدى قدرة الوكالة على الاستمرار كمنصة ذات مصداقية إذا فُقدت خبرات مئات الصحفيين والكوادر الإعلامية.
معركة على استقلالية الإعلام
بحسب الدعوى التي رفعها المدعون، فإن خطة التسريح لا تمثل مجرد إعادة هيكلة إدارية بل تشكل تهديداً مباشراً لاستقلالية الإعلام الممول حكومياً، وأكد المدعون أن "التقليص الممنهج" قد يُضعف قدرة الشبكة على الوفاء برسالتها الجوهرية، وهو ما دفع القاضي لامبرث إلى الإبقاء على الوضع القائم إلى حين البتّ في الدعوى الأساسية.
يرى محللون أن هذه المعركة القضائية تعكس صراعاً أوسع بين البيت الأبيض والهيئات الإعلامية الحكومية حول حدود التدخل السياسي. إذ يُطرح سؤال محوري: هل يُفترض بوكالات مثل "صوت أمريكا" أن تعمل كأداة بيد الإدارة أم كمنصة إعلامية مستقلة تعكس قيم الصحافة الحرة؟
وراء الأرقام تكمن قصص إنسانية لمئات الموظفين الذين وجدوا أنفسهم على حافة فقدان وظائفهم فجأة، وكان الصحفيون والمترجمون والمنتجون والفنيون، الذين عملوا سنوات طويلة في ظروف معقدة لتقديم محتوى إعلامي للجمهور العالمي، يواجهون خطر البطالة وفقدان مصدر دخلهم الأساسي، وجاء تعليق القرار ليمنحهم "فسحة تنفس مؤقتة"، لكنه لا يلغي القلق بشأن المستقبل، خاصة مع استمرار الضغوط المالية والسياسية على الوكالة.
ردود الفعل والآثار المستقبلية
أثار القرار ارتياحاً لدى العاملين والمدافعين عن حرية الصحافة، بينما اعتبره بعض المسؤولين الجمهوريين عقبة أمام "إصلاح ضروري" لهيكل الوكالة، منظمات حقوقية وإعلامية دولية تابعت القضية عن كثب، محذرة من أن أي تقويض لاستقلالية "صوت أمريكا" سيبعث برسالة سلبية إلى العالم بشأن التزام واشنطن بحرية الإعلام.
طالما مثّل الإعلام الدولي الممول حكومياً جزءاً أساسياً من استراتيجية القوى الكبرى للتأثير في الرأي العام العالمي و"صوت أمريكا" لم تكن استثناءً، إذ لعبت دوراً محورياً خلال الحرب الباردة في نقل رواية مضادة للرواية السوفيتية، لكن مع نهاية الحرب الباردة وبروز الإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي، أصبحت الأسئلة أكثر إلحاحاً حول جدوى هذه المؤسسات وحاجتها إلى إصلاحات هيكلية.
اليوم، يتقاطع هذا الجدل مع صعود النزعات الشعبوية والسياسات الانعزالية، ما يعكس معركة بين إرث إعلامي يرفع شعار "الصحافة الحرة" وواقع سياسي يسعى إلى إعادة توجيه أدوات الدولة لخدمة أجنداته المباشرة.
دروس من التاريخ
ليست هذه المرة الأولى التي تواجه فيها مؤسسة إعلامية ممولة حكومياً تهديداً وجودياً بسبب تغيّر السياق السياسي. بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، تراجعت الأولوية الاستراتيجية لــ"إذاعة أوروبا الحرة/راديو الحرية" التي لعبت لعقود دوراً محورياً في اختراق "الستار الحديدي" وبث رسائل مضادة للدعاية الشيوعية.
مع انحسار التهديد السوفيتي، شرعت الولايات المتحدة في تقليص التمويل المخصص لهذه الإذاعة، وأغلقت عدداً من مكاتبها في أوروبا الشرقية، وآنذاك، برّر المسؤولون القرار بانتفاء الحاجة إلى أداة دعائية مكلفة في ظل تحوّل المنطقة نحو الديمقراطية، لكن محللين وإعلاميين حذروا من أن هذا التقليص قد يكون قصير النظر، وأنه يغفل حقيقة أن الاستقرار السياسي والانتقال الديمقراطي ليسا مسارات مضمونة.
اليوم، يُستعاد هذا الجدل في حالة "صوت أمريكا". فكما أن نهاية الحرب الباردة دفعت إلى التساؤل عن جدوى إذاعة أوروبا الحرة، فإن الانقسامات السياسية الأمريكية ورغبة إدارة الرئيس دونالد ترامب في إعادة هيكلة الوكالة الإعلامية العالمية يثيران تساؤلات مشابهة حول الدور المستقبلي لهذه المؤسسات.
اللافت أن التاريخ أثبت أن "أدوات القوة الناعمة" لا تفقد أهميتها مع تغيّر الظروف، بل يعاد تشكيلها وفق أولويات جديدة تتجسد في مواجهة الإرهاب بعد 2001، ومحاربة التضليل الرقمي في العقد الأخير، أو التنافس مع روسيا والصين في معركة "سرديات" معاصرة.
التشابه والاختلاف
أوجه التشابه تتمثل في أن كلتا التجربتين ارتبطتا بلحظة سياسية فاصلة – نهاية الحرب الباردة بالنسبة لإذاعة أوروبا الحرة، وصعود الشعبوية والانعزالية في عهد ترامب بالنسبة لصوت أمريكا، وفي الحالتين، تراجع التمويل والوظائف ارتبط باعتقاد أن الدور "التاريخي" قد انتهى أو لم يعد بنفس الأهمية.
أما الاختلاف فإن إذاعة أوروبا الحرة أعيد توجيهها لاحقاً لتواكب التحديات الجديدة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، في حين أن "صوت أمريكا" تواجه الآن خطر تقويض استقلاليتها المهنية لأجل أجندة سياسية داخلية، وهو ما قد يُفقدها مصداقيتها الدولية، لا مجرد خفض مواردها المالية.
المقارنة تكشف أن قرارات تقليص أو إعادة هيكلة المؤسسات الإعلامية الحكومية ليست مجرد شؤون إدارية، بل محطات تعكس طبيعة الصراع الأوسع على من يملك الحق في صياغة الرواية العالمية، وكما كان تقليص إذاعة أوروبا الحرة انعكاساً لتحولات النظام الدولي بعد الحرب الباردة، فإن أزمة صوت أمريكا اليوم تعبّر عن صراع داخلي أمريكي حول حدود حرية الإعلام ودوره في السياسة الخارجية.