أرض خصبة لليمين.. كيف يتحول النظام الاجتماعي الأوروبي إلى آلية استبعاد وبوابة شعبوية؟
أرض خصبة لليمين.. كيف يتحول النظام الاجتماعي الأوروبي إلى آلية استبعاد وبوابة شعبوية؟
في مقاله الأخير المنشور الأربعاء، كتب المفوض الأممي الخاص بالفقر والحقوق الاقتصادية والاجتماعية أوليفييه دي شوتر أن الأحزاب الشعبوية اليمينية في أوروبا لا تكتفي بخطاب معادٍ للهجرة بل تنخرط في استراتيجية عدالة اجتماعية داخلية تَعِد بمزايا رعاية أعلى للفئة الوطنية مع استثناء الغريب أو الأجنبي وهذا الموقف، الذي يُعرف باسم شوفينية الرفاه الاجتماعي يشكّل قلب نقاش جديد في السياسات الأوروبية.
ويشير دي شوتر في مقاله بصحيفة "EUobserver" إلى أن الديمقراطيين السويديين وحزب الحرية النمساوي سجّلا تقدماً بوعود إنفاق اجتماعي أكبر، لكن موجهة حصراً للفئات “الوطنية” وانطوت ضمنها استثناءات موجهة للأجانب واللاجئين.
لكن المثير أن ما كان يُعدّ تقليديًا واجباً اجتماعيًا شاملًا لم يتحول إلى وسيلة جذب انتخابي فحسب، بل إلى جهاز صنع مفاضلات بين مستحقّ وغير مستحقّ داخل دولة الرفاه، وأوضح دي شوتر أن العقود الأخيرة عرفت إعادة هيكلة كبيرة لنظم الرعاية الاجتماعية، لافتا أنه تم الانتقال من دعم الاستحقاق كحق أساسي إلى استحقاقات مشروطة تُقيّدها شروط مثل العمل أو البحث عن عمل، مع عقوبات للمتخلفين عنها، ضارباً مثالل ذلك بفرنسا حيث يُطلب من المستفيدين من الحد الأدنى للدخل العمل 15 ساعة أسبوعياً، وألمانيا حيث يمكن حجب الاستحقاقات بالكامل إذا رفض المستفيد عرض وظيفة مناسباً.
الأسباب البنيوية وتحول المعنى
في السنوات الماضية، واجهت دول الرفاه الأوروبية ضغوطاً مالية كبيرة، خاصة في أعقاب أزمة الديون الأوروبية، مما دفع الحكومات إلى تخفيض الإنفاق الاجتماعي وتطبيق شروط تنموية قاسية، وفي هذا السياق، تقول دراسات أكاديمية إن شوفينية الرفاه ازدادت مع ارتفاع البطالة والضغوط الاقتصادية، وكانت موجهة للحد من حقوق المهاجرين في الاستفادة من نظام الرفاه.
وقال دي شوتر إن هذه التغييرات ليست إصلاحات محايدة، بل تحمل مضمونًا سياسيًا، إذ إن المستفيدين يتم مراقبتهم بشدة، وتُفرض عليهم شروط عمل أو بحث عن عمل، ويُحوّل الفقر من كونه ظرفًا بنيويًا إلى فشل فردي، ما يعزّز الخطاب الذي يقول "نحن نستحق والرعاية لنا، وهم لا يستحقون" وهو ما يعزز التقسيم داخل المجتمعات.
وبهذا يتحول نظام الحماية الاجتماعية إلى أداة للتصنيف، والمراقبة، والعقاب، فالمستفيد ليس فقط محظوظاً بل مراقَب، والمُستبعد ليس فقط غير مؤهل بل عدوّ محتمل.
تداعيات بشرية وقانونية
هذا النموذج الجديد ليس مجرد تحول سياسي، بل له بعد إنساني وقانوني جذري يتمثل في: أولاً، من حيث الحقوق الاجتماعية: فإن الحق في الرعاية، والصحة، والتعليم، يُعد من حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية التي تكفلها الاتفاقيات الدولية (مثل العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية) وتجاوز الدول لهذه الالتزامات من خلال تقليص الوصول أو ربطه بشروط صعوبة يُثير مخاوف حقوقية.
ثانيًا: يُشير تحليل عبارة "رعاية عقابية” إلى أن الأقليات والمهاجرين يُستبعدون أو يُوضعون تحت شروط أشد، ما يُعبّر عن تمييز منظم، وبينت دراسات متعددة أن تطلّع اليمينيين المتطرفين إلى ربط الوصول إلى المزايا بالجنسية أو الأصل يُعدّ عنصرًا جوهريًا في برنامجهم السياسي.
من الناحية القضائية، ظهرت قضايا أمام المحاكم الأوربية، مثل الحكم الصادر في هولندا بشأن الكشف عن الاحتيال في الرعاية الاجتماعية، والذي يُعدّ أول حكم إلغاء قانوني لنظام رقابي للرفاه لأنه ينتهك الحق في الخصوصية بموجب اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية وفق تحليل أكاديمي.
وتعليقًا على هذا النموذج، حذّر المفوض الأممي الخاص بالفقر والحقوق الاقتصادية والاجتماعية أوليفييه دي شوتر من أن سنوات من خفض الإنفاق الاجتماعي شكّلت أرضًا خصبة لصعود اليمين المتطرف في أوروبا.
من الحماية إلى الاستثناء
في سياق ما بات يعرف بتفكيك دولة الرفاه، بدأت الدول الأوروبية في إعادة تصميم السياسات الاجتماعية منذ العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بناء على منطق أن العمل يجب أن يكون شرطاً للاستحقاق، وأن المستفيد يجب أن يُشارك أو يُحاسب، وهذا التحول يستخدمه اليمين المتطرف كأداة خاصة في نظرته للأجانب أو المهاجرين.
وفي الوقت نفسه، تظهر بيانات أن الدعم الاجتماعي الموجّه إلى المهاجرين أو طالبي اللجوء أصبح محورًا لنقاشات سياسية حادّة، ففي دراسة مقارنة، أظهرت نسبة رفض منح المزايا للمهاجرين أنها تراوح بين 30 و50 في المئة في دول أوروبية عدة.
وعلى مستوى السياسات، أكد المشروع الأوروبي "INWELCHAV" كيف أن الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا عملت على إضفاء هوية وطنية مزودة بالرعاية للمواطنين فقط، مستغلة أنظمة الرفاه المتوترة اقتصادياً لتبني خطاباً شعبوياً.
ردود المنظمات الحقوقية
منظمات حقوق الإنسان الليبرالية تنتقد هذا التطور مثلاً، باحثة جامعة أمستردام جيانا إييك قالت إن شوفينية الرفاه هي صيغة رابحة لليمين المتطرف.
كما أصدرت مؤسسات مثل الألمانية المعهد الألماني لحقوق الإنسان بيانات تحذّر من الربط المشروط للرفاه الذي يضرّ بالفئات الضعيفة.
على الصعيد الأوروبي، صدرت تحذيرات من أن المساعدات المتعلقة بالاندماج أو الرعاية قد تُساهم في تعزيز التمييز، فقد أظهر تقرير أن أكثر من مليار يورو من تمويل الاتحاد الأوروبي تم استخدامه في مشاريع تمييزية تجاه أقليات بما في ذلك المهاجرين.
النموذج الذي يرسمه دي شوتر يُظهر أن اليمين المتطرف يستفيد من واقعين متلازمين: أولاً، تقلص الشعور بالضمان الاجتماعي شكّل حالة انعدام أمان بين الطبقة العاملة أو الوسطى التي شعرت بأنها مهدّدة اقتصادياً، وثانيًا، خطاب "نحن نستحق وهم لا يستحقّون" يسوّغ فكرة أن المشكلة ليست النظام بل الآخر الغريب، ويُحوّل الغضب نحو الفئات المهاجرة أو الأقلية بدلاً من سياسات الرفاه أو الاقتصاد.
بمجرد أن تُغذى أنظمة الرعاية الاجتماعية بشروط وقد تتحول إلى آليات مراقبة، فإنها تفقد بعدها الوقائي التحليلي وتصبح أداة لتصنيف الأشخاص، وتُوسّع الهوة بين المستحقّ وغير المستحقّ، وتُعزّز مشاعر النقص أو الخوف، وهذا ما يلتقي بسرد اليمين المتطرف الذي يعد بحماية “الناس الحقيقية”.
ما الذي يجب عمله؟
بناءً على تحليل دي شوتر وتوصيات حقوقية، يُطلب من الأحزاب السياسية الرئيسية إعادة تبنّي خطاب الرعاية الاجتماعية كونه حقاً لا امتيازاً مشروطاً، وضمان أن برامج الرفاه تتخطى التمييز، وتُمكّن الفئات الضعيفة، وليس أن تضعها تحت المراقبة والعقاب.
ويشير إلى ضرورة أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تدمج تقييم الأثر الحقوقي (EQHRIA) في سياسات الرعاية، كما دعا إلى تعديلات تشريعية تمنع التمييز على أساس الأصل أو الوضع الاجتماعي ضمن خدمات عامة.
كما ينبغي للمجتمع المدني مراقبة تطوير خوارزميات الرعاية الاجتماعية، وضمان أنها لا تُحوّل المستفيدين إلى مُشتبه بهم أو تتجاوز حقوقهم الرقمية والإنسانية.
وأخيراً، لا بدّ من مواجهة النموذج الشعبوي ليس فقط سياسياً بل عبر تقديم بدائل اجتماعية تُعيد الثقة في دولة الرفاه الشاملة، وتضع التوزيع العادل والإدماج في قلب السياسات وليس الاستبعاد.
إن التقرير الذي طرحه أوليفييه دي شوتر ليس مجرد نقد لليمين المتطرف بل تحذير من أن التحول في أنظمة الرعاية الاجتماعية قد يكون عاملًا محوريًا في إعادة تشكيل النظم السياسية والاجتماعية الأوروبية، وما كان يُعتبر حصنًا للحماية الاجتماعية أصبح يمكن أن يكون بوابة للانقسام المجتمعي.










