نافي بيليه.. سيدة العدالة التي أكدت أن الإنسانية لا تعرف حدوداً
نافي بيليه.. سيدة العدالة التي أكدت أن الإنسانية لا تعرف حدوداً
بعد أكثر من نصف قرن من النضال الصلب في سبيل الكرامة الإنسانية والعدالة والمساواة، تضع نافي بيليه نقطة النهاية لمسيرتها المهنية، لتترك وراءها إرثاً سيظل شاهداً على أن الإصرار يمكن أن يهزم الظلم، وأن الصوت الواحد قادر على إحداث فرق حين يكون صادقاً.
ولدت بيليه في جنوب إفريقيا، في زمنٍ كانت فيه العدالة امتيازاً لعرقٍ واحد. تنتمي لعائلة متواضعة من أصول هندية، وكان والدها سائق حافلة. لم ترَ في الفقر عيباً، بل دروس مبكرة عن التحدي.
تقول في مقابلة نشرها موقع أخبار الأمم المتحدة يوم الاثنين: "نشأنا فقراء للغاية. كان والدي سائق حافلة، وكنا سبعة أطفال. أروي هذه القصة لأن معظم الناس يفترضون أن الهنود في بلدي كانوا أفضل حالاً من الأفارقة. الحقيقة أننا كنا جميعاً فقراء، وكنا نكافح معاً".
من تلك البداية البسيطة، خرجت فتاة تحمل في عينيها حُلماً أكبر من حدود بيئتها. لم تكن المساواة بالنسبة لها شعاراً، بل كانت وعداً شخصياً للعالم.
من المحاكم إلى الأمم المتحدة
في حقبةٍ كانت فيها العدالة محظورة على غير البيض، كانت نافي بيليه أول امرأة من غير العرق الأبيض تفتح مكتب محاماة خاصاً بها في جنوب إفريقيا، وهناك، بين ملفات القضايا وشهادات المعتقلين، اكتشفت أن الدفاع عن المظلومين ليس مجرد مهنة، بل نداء روح. كانت تدافع عن نشطاء حقوق الإنسان والمعتقلين السياسيين، وتؤمن بأن العمل الجماعي وحده يمكن أن يوقف آلة الظلم.
تقول بيليه: "لم أكن أعتقد أن الفصل العنصري سينتهي في حياتي، لكن العالم كله اتحد معنا، حتى الأطفال، حينها أدركت أن التضامن يمكن أن يغيّر التاريخ".
حين واجهت العدالة الألم
من جنوب إفريقيا إلى رواندا، حملت بيليه إيمانها بالإنسانية إلى ساحات أخرى من الألم بوصفها قاضية في المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، واجهت بشجاعة أهوال الإبادة الجماعية، وأسست لسوابق قانونية غيرت وجه العدالة الدولية — منها الاعتراف لأول مرة بالاغتصاب بوصفه جريمة إبادة جماعية.
تتذكر تلك التجربة قائلة: "في البداية اشتكيت من بساطة المكان وغياب الخدمات، ثم سمعت شهادات الناجين.. عندها أدركت أن ما نملكه ليس قليلاً، وأن الشكوى تفقد معناها أمام من عاشوا الجحيم".
نجاحها في رواندا فتح أمامها أبواب العدالة العالمية، فكانت قاضية في المحكمة الجنائية الدولية، ثم المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة عام 2008.
في جنيف، لم تكتفِ بالحديث عن المبادئ، بل سعت لتقريب مؤسسات الأمم المتحدة من الناس، مؤكدة أن كل ما تحقق في مجال حقوق الإنسان لم يكن منحة من الدول، بل ثمرة لنضال المجتمع المدني وضغط الشعوب.
تقول بيليه: "عندما تأسست الأمم المتحدة، كانت نادياً للدول. ما لدينا اليوم تحقق لأن الناس طالبوا به، ودفعوا ثمنه".
ومع ذلك، لم تُخفِ إحباطها من آلية عمل مجلس الأمن الدولي: "حق النقض (الفيتو) أمر محبط للغاية، هدف المجلس هو ضمان السلام، ومع ذلك تُزهق الأرواح في حين يقف العالم متفرجاً، النظام معيب، لكنه للأسف أفضل ما لدينا".
غزة.. الضمير الذي لا يصمت
في آخر محطات مسيرتها، ترأست بيليه لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالأرض الفلسطينية المحتلة وإسرائيل.
تحدثت بصراحة عن الانتهاكات في غزة، ووصفت تصريحات بعض القادة الإسرائيليين بأنها "تحريض على الإبادة الجماعية".
واجهت هجوماً سياسياً وإعلامياً، لكنها لم تتراجع، وتقول بثقة القاضي الذي لا يخاف إلا من ضميره: “أفضّل أن يخبرنا منتقدونا أي جزء من الأدلة كاذب، ولماذا؟”
وأضافت أن كثيراً من الشهادات التي وثقتها اللجنة جاءت من داخل إسرائيل نفسها، مؤكدة أن الحقيقة لا تعرف حدوداً ولا هوية.
إرث من الضوء
مسيرة نافي بيليه ليست مجرد سيرة مهنية؛ إنها قصة إنسانية عن امرأة كسرت القيود، لتفتح الأبواب أمام جيلٍ جديد من المدافعين عن العدالة، فمن أحياء الفقر في ديربان، إلى قاعات الأمم المتحدة في جنيف، ظلّت تؤمن بأن العدالة تبدأ من الإيمان بكرامة الإنسان — أي إنسان.
في عالمٍ يتسارع فيه الانقسام واللامبالاة، تبقى كلماتها وصوتها تذكيراً بأن الأمل لا يموت ما دام هناك من يؤمن به.
في أحد تعبيراتها تقول: “إذا استطعنا إنهاء الفصل العنصري، يمكننا أن نبني نظاماً أفضل لحماية حقوق الإنسان”. هكذا كانت تؤمن وهكذا ستظل تُلهم.










