سيادة القانون تحت الحصار.. كيف تستغل إدارة ترامب القضاء لإخضاع الخصوم السياسيين؟
سيادة القانون تحت الحصار.. كيف تستغل إدارة ترامب القضاء لإخضاع الخصوم السياسيين؟
كشف تحقيق مطوّل نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية، الثلاثاء، أن الرئيس دونالد ترامب يمارس ضغوطًا شديدة على وزارة العدل الأمريكية لتوجيه اتهامات جنائية إلى خصوم سياسيين، اعتمادًا على أدلة هزيلة وتحقيقات مشبوهة، في تحول لوزارة العدل من هيئة مستقلة إلى سلاح شخصي يخدم أجندته.
وذكرت الصحيفة أنه في هذا السياق، تُعدّ قضايا جيمس كومي، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق، وليتيتيا جيمس، المدعية العامة في نيويورك، أبرز أمثلة على ما وصفه القانونيون بأنه ملاحقات سياسية بالوكالة عن الرئيس.
يُتهم الرئيس ترامب بتوجيه مكتب العدالة لإخضاع “كومي” لاتهامات مثل الكذب أمام الكونغرس وعرقلة سير التحقيقات، على الرغم من أن كثيرًا من المحامين والقضاة السابقين يرون أن الأدلة المقدّمة عليه ضعيفة وأساسها سياسات انتقامية، كما تم توجيه اتهامات إلى ليتيتيا جيمس تتعلق بالاحتيال المصرفي وتقديم بيانات مضللة، وهي القضايا التي رفضت المعتقلة بها الاتهامات مؤكدة براءتها، وحصلت على تأييد من فريق قانوني واسع بدأ يعبّر عن خشيته من المسار القضائي.
ولم تتوقّف الاستراتيجية عند هؤلاء الكبار فقط، فقد أنشأت وزارة العدل ما بات يُعرف بـ(Weaponization Working Group) بقرار من المدعية العامة بامي بوندي في أوائل 2025، لبحث ما يُسمّى بـ"التحقيقات السياسية"، وهو ما اعتبره نقاد خطوة رسمية لتفعيل أداة داخل الوزارة تهدف لاستهداف خصوم ترامب علنًا.
كما رافق هذا التوجه تغييرات هيكلية صارخة داخل وزارة العدل، ففي قسم الحقوق المدنية مثلاً، غادر أكثر من 250 محامياً أو تم نقلهم أو استُبعدوا منذ بداية 2025، ما يقلّص قدرة الحملات القضائية المستقلة على العمل بحرّية، وبحسب "الغارديان"، تمّ أيضاً استبدال قيادات وحدة التصويت في الوزارة وتوجيه الموظفين بوقف القضايا النشطة التي كانت تسعى لحماية الحقوق الانتخابية في الولايات، في خطوة أثارت مخاوف واسعة من تراجع دور إنفاذ الحقوق المدنية.
تكشف هذه التحولات أن الولاء لترامب بات معيارًا مهمًا في اختيار من يقود القضايا داخل وزارة العدل، وليس النزاهة أو الكفاءة القانونية، وفي هذا السياق، دعا محامو العدل السابقون إلى رفض هذه الممارسات ووصفوا توجيه الاتهامات بناءً على رغبات سياسية تطلّعات غير مسبوقة في تاريخ القضاء الأمريكي.
تداعيات إنسانية وقانونية
عندما يُستهدف القضاء في الولايات المتحدة بهذا الشكل، لا تكون الخسائر مقتصرة على أولئك الذين يُوجّه إليهم الاتهام، فالضرر يشمل النظام القانوني بأكمله: يضعف الثقة في أن القضاء يُمارَس بنزاهة وحياد، ويخلق أجواء من الخوف في الأوساط السياسية، وقد يثني المحامين والقضاة ذوي المبادئ على قبول القضايا المثيرة أو اتخاذ مواقف مستقلة.
الضحايا المباشرون قد يكونون خصومًا سياسيين أو صحفيين أو نشطاء، لكن المدى الأعمق يمتد إلى المدنيين العاديين الذين يعتمدون على المحكمة كمرفق لحماية الحقوق، إذا صار القضاء أداة بيد رئيسٍ يلاحق خصومه، فإن أحدًا ليس بمنأى عن التجربة المؤلمة للاعتقال التعسفي أو التهديد القضائي.
في قضايا مثل كومي وجيمس، أثارت الدعوات نحو إسقاط التهم بسبب ممارسات وزارة العدل السياسية جدلًا قانونيًا عميقًا، حيث شارك أكثر من مئة مسؤول سابق في الوزارة في تقديم مذكرات للمحكمة لدعم أن محاكمة كهذه هي انتقامية ويتعين رفضها.
كما تزايدت الاستقالات داخل مكاتب المدعين الفيدراليين، خاصة في الوحدات التي تدافع عن سياسات الإدارة أو تنفذها، حيث ترك ما يقرب من ثلثي موظفي وحدة الدفاع الفيدرالية مناصبهم نتيجة لضغط العمل والتحديات الأخلاقية.
وتعد عمليات الطرد الجماعية والاستقالات مؤشّراً قويًا على الانقسام الذي تشهده وزارة العدل بين القادة المتحمّلين للمشروع السياسي والقضاة المدنيين الذين يرفضون أن يُستخدم جهاز إنفاذ القانون كأداة سياسية.
من الناحية الدولية، فإن ما يجري في الولايات المتحدة يُراقبه دعاة الديمقراطية والقانون حول العالم، خاصة في دول تناضل لأجل استقلال القضاء وحياده، وعندما يتضح أن أقوى محكمة في العالم وتاريخياً تصبح أداة للانتقام، يرسل ذلك رسالة خطيرة عن هشاشة الممارسات الديمقراطية حتى في أعظم الديمقراطيات.
ردود المنظمات الحقوقية والمراقبة الدولية
طالبت منظمات حقوقية أمريكية مثل مشروع حماية الديمقراطية بإجراء تحقيق مستقل حول ما وصفته بممارسات وزارة العدل الانتقامية، كما تقدمت تلك الجمعيات بمذكرات صديقة تدعم الطعن في تهم كومي كقضية سياسية.
من جهتها، أبدت دوائر القضاء الفيدرالي بعض الحذر: محاكم فيدرالية بدأت تُظهر شكوكًا علنية في مصداقية ادعاءات الوزارة، ورفضت بعض الطلبات التي تُقدّم دون أدلة قوية أو الإجراءات العادلة، وفي كثير من القضايا، ألزمت بعض القضاة الوزارة بالكشف عن الوثائق أو تقديم مبررات إضافية قبل قبول التهم أو إزاحتها.
وعلى مستوى الصحافة الأمريكية والعالمية، استُخدمت عبارة أن وزارة العدل أصبحت "مكتب قانوني شخصي لترامب" للتعبير عن الخطر الذي تمثّله هذه السياسة على فكرة العدالة العامة.
أصول تاريخية وتحذير من الماضي
هذا النهج ليس بدون سابقة في التاريخ الأمريكي، ففي عهد ريتشارد نيكسون، استخدمت الرئاسة جهاز العدالة في حملات مثل "كسر التحالف" ضد الخصوم السياسيين، لكن حتى في تلك الحقبة، سُجّل تحفظ قوي داخل الوزارة وداخل المؤسسات القضائية على استغلال الملف القضائي للسياسة.
ما يميز الوضع الحالي هو التقديم العلني والضغط المباشر من الرئيس على وزارة العدل لإصدار أوامر باتهام خصومه، وقد عبّر العديد من الخبراء بأن هذا المستوى من التدخل في عمل المدعين العامين سابقًا لم يُر مثله حتى في أسوأ فترات سوء استخدام السلطة في التاريخ الأمريكي، وبعضهم يقول إنه لم يسبق أن جرى توجيه وزارة العدل بهذا الشكل لتكون ذراعًا في الصراعات السياسية المفتوحة.
تحذير أيضًا يمكن الاستدلال به من التجارب في دول أخرى حيث استُخدم القضاء كورقة للسيطرة على المعارضين، مما أدى إلى تآكل المؤسسات الديمقراطية وتفشي مظاهر الاستبداد.
إن ما يجري في الولايات المتحدة اليوم ليس مجرد صراع سياسي عابر، بل اختبارا لمدى قدرة المؤسسات الديمقراطية على الصمود عندما يريد رئيس أن يحول القانون إلى سيف يُوجّه ضد من يقف ضده، وليس وسيلة لحماية الحقوق للجميع.










