من شينجيانغ إلى شيفيلد.. كيف تُصدّر الصين نموذجها القمعي إلى الجامعات الغربية؟

من شينجيانغ إلى شيفيلد.. كيف تُصدّر الصين نموذجها القمعي إلى الجامعات الغربية؟
جامعة شيفيلد هالام البريطانية

في تطور يسلّط الضوء على اتساع رقعة النفوذ الصيني خارج الحدود، حذّرت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير من أن تدخلات الحكومة الصينية باتت تشكل تهديداً متزايداً للحريات الأكاديمية في المملكة المتحدة، في وقت تتصاعد فيه المخاوف من أن تمتد ممارسات القمع التي تنتهجها بكين داخل أراضيها إلى الجامعات ومراكز البحث الغربية.

وجاء التحذير بعد واقعة صادمة في جامعة شيفيلد هالام البريطانية، التي أوقفت مشروعاً بحثياً عن العمل القسري ضد الأويغور عقب ضغوط غير مباشرة من السلطات الصينية، لتتحول القضية إلى نموذج صارخ لما تسميه المنظمات الحقوقية “القمع العابر للحدود”، أي ممارسة دولة سياساتها القمعية على مواطنين أو باحثين خارج نطاقها الجغرافي.

بحث علمي يتحول إلى قضية سياسية

بدأت الأزمة عندما قادت الأستاذة لورا مورفي، المتخصصة في حقوق الإنسان والعبودية الحديثة، مشروعاً بحثياً يوثق العمل القسري للأويغور في منطقة شينجيانغ وربطه بسلاسل التوريد العالمية، بما في ذلك قطاعات الملابس والطاقة الشمسية وصناعة السيارات.

لكن بعد نشر نتائج المشروع في موقع الجامعة، تم استدعاء أحد موظفيها في بكين من قِبَل ضباط أمن الدولة الصينيين، وفق تقارير إعلامية، لتبدأ بعدها سلسلة من الضغوط والتخويف التي انتهت بقرار الجامعة حذف تقارير مورفي وتعليق أبحاثها في فبراير الماضي.

ولم تُرفع القيود إلا بعد ثمانية أشهر، حين اضطرت الجامعة إلى الاعتذار بعدما رفعت مورفي دعوى قضائية ضدها تتهمها بانتهاك حريتها الأكاديمية.

وقال متحدث باسم الجامعة في تصريحات لصحيفة "الغارديان" إن "المراجعة الداخلية انتهت بالموافقة على نشر أبحاث البروفيسورة مورفي مجدداً"، مضيفاً أن الجامعة "ملتزمة بدعم الحرية الأكاديمية".

تكميم الأفواه عبر الحدود

في تقرير حديث، أكدت هيومن رايتس ووتش أن ما حدث في شيفيلد هالام ليس حادثة معزولة، إنما هو جزء من استراتيجية ممنهجة تسعى من خلالها بكين إلى تكميم الأفواه المنتقدة عبر الحدود، مستهدفة الأكاديميين والطلاب الصينيين في الخارج، ومؤسسات البحث التي تتناول قضايا مثل شينجيانغ والتبت وتايوان.

ووصفت المنظمة هذا النمط بأنه "تهديد خطير لحرية الفكر والبحث"، مشيرة إلى أن عدداً من الباحثين في الدراسات الصينية في بريطانيا أفادوا بتعرضهم لمضايقات أو تهديدات عند تدريسهم أو نشرهم لأبحاث تنتقد الحكومة الصينية.

وتضيف المنظمة أن بعض الشركات الصينية، بما فيها مؤسسات مملوكة للدولة، رفعت دعاوى قضائية بتهمة التشهير في المحاكم البريطانية ضد باحثين وصحفيين ومنظمات غير حكومية، في محاولة لإسكاتهم وإرهاقهم مالياً وقانونياً، في ممارسة باتت تُعرف باسم "دعاوى الترهيب الاستراتيجية".

البرلمان البريطاني يدخل على الخط

أثارت القضية موجة واسعة من الجدل داخل الأوساط الأكاديمية والسياسية في بريطانيا، فقد ناقش البرلمان البريطاني القضية ضمن تقرير للجنة البرلمانية المشتركة لحقوق الإنسان، الذي وصف ما يحدث بأنه "قمع عابر للحدود" يهدد القيم الديمقراطية البريطانية في قلب مؤسساتها التعليمية.

وحثّ التقرير الحكومة على اتخاذ تدابير لحماية الباحثين والطلاب من المراقبة أو الانتقام الصيني، مشيراً إلى أن "الحرية الأكاديمية هي أحد أعمدة المجتمع الديمقراطي، وأي تهاون في الدفاع عنها يفتح الباب لتآكلها التدريجي".

وفي السياق ذاته، دعت منظمات حقوقية بريطانية إلى وضع ضوابط صارمة للتمويل الخارجي للجامعات، وضمان استقلالية مراكز البحث التي تتناول قضايا حساسة تمس حقوق الإنسان أو الأمن القومي.

مخاوف متزايدة من التغلغل الصيني

ليست بريطانيا وحدها في مرمى النفوذ الصيني، فقد حذّرت المفوضية الأوروبية في تقاريرها الأخيرة من أن شبكات التأثير الصينية داخل الجامعات الأوروبية تمثل "تحدياً متزايداً لحرية البحث العلمي"، مشيرة إلى تزايد التعاون الأكاديمي الذي "يخفي أحياناً أجندات سياسية أو استخباراتية".

وفي فرنسا، أثار اعتقال الطالبة الصينية تارا تشانغ يادي في يوليو الماضي بعد عودتها إلى الصين -بسبب دفاعها عن حقوق التبتيين أثناء دراستها في باريس- صدمة واسعة، واعتُبر مثالاً على كيف يمكن لبكين معاقبة مواطنيها بسبب نشاطهم الأكاديمي في الخارج.

وقد أعربت المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة عن قلقها من "استمرار نمط الملاحقات الانتقامية" ضد الطلبة والباحثين الصينيين في الخارج، مطالبة الحكومات الأوروبية بـ"ضمان عدم تصدير القمع إلى أراضيها".

الحريات الأكاديمية بين الالتزام الدولي والتهديد السياسي

يؤكد خبراء القانون الدولي أن حرية البحث والتعليم محميّة بموجب المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 13 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، اللتين تلزمان الدول بضمان حرية الفكر والتعبير الأكاديمي دون خوف أو تدخل.

ويرى قانونيون أن على الحكومة البريطانية واجباً قانونياً وأخلاقياً لتوفير بيئة آمنة للباحثين، لا سيما حين تأتي التهديدات من جهات أجنبية وقد دعت منظمة العفو الدولية إلى إنشاء آلية وطنية لرصد التهديدات الخارجية ضد الأكاديميين، مؤكدة أن "السكوت على الترهيب الصيني يفتح الباب أمام سابقة خطيرة في تاريخ الجامعات البريطانية".

إرث طويل من التعتيم والسيطرة

يأتي هذا التوتر في سياق أوسع من تاريخ طويل من سيطرة الحزب الشيوعي الصيني على الخطاب الأكاديمي والإعلامي فمنذ حملة القمع في ميدان تيانانمن عام 1989 وحتى اليوم، اتخذت بكين موقفاً عدائياً تجاه أي نقاشات تتعلق بحقوق الأقليات أو الانتقادات السياسية.

ومع توسع الصين اقتصادياً، امتد نفوذها إلى الخارج عبر التمويل الأكاديمي والاتفاقيات التعليمية، مثل "معاهد كونفوشيوس" التي تنتشر في أكثر من 150 جامعة حول العالم، وتواجه اتهامات بأنها تروّج للدعاية الصينية وتراقب الجاليات الطلابية.

وفي بريطانيا، أُغلق عدد من تلك المعاهد خلال السنوات الأخيرة بعد تقارير أمنية أكدت "وجود تدخلات مباشرة في مضمون المناهج ومراقبة للطلبة الصينيين المعارضين".

الخوف في قاعات الجامعات

وراء الجدل السياسي والقانوني، هناك خوف ملموس بين الأكاديميين والطلاب فقد تحدث باحثون بريطانيون إلى وسائل إعلام محلية عن تلقيهم تهديدات مبطنة عبر البريد الإلكتروني أو مواقع التواصل الاجتماعي بعد نشر أبحاث تتعلق بشينجيانغ أو التبت.

هذه الأجواء، بحسب منظمة "أكاديميون بلا حدود"، تُنتج ثقافة صمت داخل الجامعات، حيث يختار البعض تجنّب المواضيع الحساسة بدلاً من المخاطرة، ما يعني أن الرقابة الذاتية أصبحت شكلاً جديداً من القمع.

تحذيرات هيومن رايتس ووتش لا تتعلق بجامعة واحدة أو دولة بعينها، بل بمبدأ عالمي مهدد، وتقول لورا مورفي، التي أصبحت قضيتها رمزاً لهذه المعركة: "إذا سُمح لأي دولة بأن تُملِي على الجامعات ما يمكن أو لا يمكن بحثه، فسنفقد جوهر الفكرة الأكاديمية نفسها".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية