بريطانيا تُعيد النظر في التزاماتها الحقوقية.. خطاب شعبوي يهدد 75 عاماً من حماية المهاجرين
بريطانيا تُعيد النظر في التزاماتها الحقوقية.. خطاب شعبوي يهدد 75 عاماً من حماية المهاجرين
تحوّل الجدل حول الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان إلى واحدة من أكثر القضايا استقطابًا في الحياة السياسية البريطانية، فعلى مدى عشرين عامًا، واصل اليمين الشعبوي إلقاء اللوم على الاتفاقية باعتبارها مسؤولة عن تعريض بريطانيا للخطر، لأنها –بحسبهم– تمنح حماية مفرطة للمهاجرين، غير أن الاتفاقية التي تحتفل هذا الأسبوع بعامها الخامس والسبعين، تجذّرت في تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين البريطانيين، وفقًا لصحيفة "الغارديان".
جسّدت الدراما البريطانية هذه المفارقة في مسلسل "أضواء زرقاء" من إنتاج "بي بي سي"، حين أصرّ شرطي في بلفاست على البقاء مع مريض نفسي حتى وصول الممرضة، قائلاً لزميله: "هذه مسألة تتعلق بالمادة الثانية"، بتلك العبارة، استحضر الشرطي نص المادة الثانية من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تفرض على الدولة واجب حماية الحياة.
يوضح هذا المشهد كيف ترسخت الاتفاقية، المدمجة في القانون البريطاني منذ عام 1998، كمرجعٍ قانوني وأخلاقي في سلوك المؤسسات العامة.
وأشعل حزب المحافظين بقيادة وزيرة الداخلية المحتملة كيمي بادنوخ الجدل مجددًا، حين أعلن في أكتوبر أن المملكة المتحدة ستنسحب من الاتفاقية إذا فاز الحزب بالانتخابات المقبلة، وسبق أن رفض البرلمان اقتراحًا رمزيًا تقدم به نايجل فاراج، زعيم حزب الإصلاح، للقيام بالمثل.
وقد اعتبر اليمين البريطاني أن الانسحاب من الاتفاقية يمكن أن يكون قضية مركزية على غرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وصرّح فاراج قائلًا: "لسنا ذوي سيادة طالما أننا جزء من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان"، بحسب ما نقلته الصحيفة.
توظيف الخوف لتقويض الحقوق
نقلت "الغارديان" عن استطلاع أجرته مؤسسة يوجوف أن 46% من البريطانيين يعارضون الانسحاب من الاتفاقية، فيما لم يُبدِ 24% موقفًا محددًا، ومع ذلك، يستمر التيار الشعبوي في محاولاته لإقناع ما تبقى من الرأي العام بأن حياة المواطنين ستكون أفضل خارج مظلة الاتفاقية، رأت الصحيفة البريطانية أن هذا المنحى خطير، لأنه يسعى إلى إقناع الناس بالتخلي عن معاهدة تحميهم من القتل والتعذيب وسوء المعاملة.
استعرضت الصحيفة جذور الاتفاقية التي صيغت عقب الحرب العالمية الثانية لترسيخ مبادئ الحرية والكرامة المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، ركزت الاتفاقية على الحقوق المدنية والسياسية مثل الحق في الحياة والحرية والمحاكمة العادلة، لتصبح في بدايتها مشروعًا سياسيًا لليمين الأوروبي يهدف إلى حماية أوروبا من الديكتاتورية الشيوعية، وورد في البيان الانتخابي لمارغريت تاتشر عام 1979 اقتراح لإدماج الاتفاقية ضمن القانون البريطاني بوصفها "شرعة حقوق" وطنية.
تبنّى اليسار البريطاني هذه القضية لاحقًا خلال التسعينيات، مستندًا إلى تجربة حكومة تاتشر التي قلصت الحقوق النقابية والاجتماعية، في عام 1998، أقرّت حكومة توني بلير قانون حقوق الإنسان الذي ألزم الهيئات العامة باحترام الحقوق المنصوص عليها في الاتفاقية، وفتح الباب أمام التقاضي الداخلي بشأن انتهاكات الحقوق.
ثغرات الوعي الحقوقي
أشارت خبيرة حقوق الإنسان فرانشيسكا كلوغ إلى أن حكومة بلير فشلت في استثمار الإمكانات الكاملة للاتفاقية، إذ تخلت عن خطط توعية عامة كان يمكن أن تعزز الشعور الشعبي بالملكية المشتركة للحقوق.
وأظهر استطلاع حديث أن أقل من نصف البريطانيين يعرفون ما يكفي عن الاتفاقية، باستثناء أيرلندا الشمالية التي وردت الاتفاقية ضمن اتفاق الجمعة العظيمة فيها.
انتقدت الصحيفة أيضًا تقصير الحكومات في توسيع نطاق الحقوق لتشمل البعد الاجتماعي والاقتصادي، إذ لم تصادق المملكة المتحدة على الميثاق الاجتماعي الأوروبي المكمل للاتفاقية، والذي يغطي قضايا السكن والعمل، واعتبرت أن هذا الإهمال ساهم في اتساع فجوة الدخل وضعف النقابات، ما جعل اليمين يجد أرضًا خصبة لسياسات "الاستياء" التي تهاجم اللاجئين والمهاجرين، وخلصت إلى أن الحفاظ على الاتفاقية يتطلب دمجها في سياسة مساواة أوسع، بدلًا من تقديم تنازلات لليمين.
أعاد وزير الداخلية العمالي السابق جاك سترو إشعال النقاش حين دعا إلى "فك الارتباط" بين القوانين البريطانية والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، حتى يتسنى ترحيل مزيد من المهاجرين الواصلين على متن القوارب الصغيرة، واعتبر سترو –وفقًا لتقرير فايننشيال تايمز– أن الاتفاقية تُساء قراءتها حاليًا بطرق لم تكن مقصودة، وأوضح أن "تفسيرها يُستخدم لمنع الترحيل في حالات عديدة".
نقلت الصحيفة عن سترو قوله: "لا شك على الإطلاق في أن الاتفاقية تُستخدم بطرق لم تكن مقصودة عندما صيغت في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات"، وأضاف أن التعليمات التي تُلزم المحاكم البريطانية بـ"مراعاة" أحكام الاتفاقية "فُسّرت على أنها اتباع حرفي، في حين لم يكن ذلك المقصود".
دعا الوزير السابق إلى تعديل قانون حقوق الإنسان ليجعل المحاكم البريطانية غير مُلزمة بمراعاة الاتفاقية، بدلًا من الانسحاب الكامل منها، الذي سيستغرق سنوات.
ضغط سياسي متزايد
ارتبطت تصريحات سترو بتصاعد الخطاب المناهض للهجرة بقيادة نايجل فاراج، زعيم حزب الإصلاح اليميني المتصدر لاستطلاعات الرأي، بحسب فايننشيال تايمز.
دعا فاراج إلى انسحاب فوري من الاتفاقية وكل المعاهدات التي تمنع الترحيل الجماعي، اعتبر سترو أن هذا الاستخدام السياسي للاتفاقية "لم يكن متوقعًا أبدًا"، مشيرًا إلى أن الوضع الحالي "أخطر مما واجهناه في أواخر التسعينيات".
واجه رئيس الوزراء كير ستارمر ضغوطًا متزايدة من داخل حزبه بعد أن دعا وزيرا الداخلية السابقان، جاك سترو وديفيد بلانكيت، إلى تقييد تطبيق الاتفاقية أو تعليقها مؤقتًا، ومع ذلك، أصرت رئاسة الوزراء على رفض هذا الخيار، مؤكدة أن تعليقه "سيضع المملكة المتحدة في مواجهة روسيا وبيلاروسيا".
ورغم هذا الموقف الرسمي، أشارت الصحيفة إلى أن ستارمر يجد نفسه مجبرًا على الموازنة بين احترام التزامات بلاده الحقوقية والتعامل مع غضب الرأي العام إزاء ملف الهجرة.
الحق في الحياة الأسرية استخدمت بعض المحاكم الاتفاقية لمنع ترحيل مهاجرين على أساس الحق في الحياة الأسرية، ما أثار استياء السياسيين المحافظين، بيّنت أن الحكومة البريطانية حاولت احتواء الأزمة عبر اتفاق محدود مع فرنسا لتسريع عمليات العودة، ووعدت بإصلاح عملية اللجوء، إلا أن استطلاع يوجوف كشف أن 71% من البريطانيين يرون أن الحكومة تتعامل مع عبور القوارب الصغيرة بشكل سيئ، ما يزيد من حدة الجدل.
رفض سترو اقتراح فاراج بترحيل مئات الآلاف من المهاجرين غير النظاميين، مؤكدًا أنه "لا يمكن لأي حكومة القيام بذلك حتى لو تخلت عن التزاماتها الدولية"، مشيرًا إلى صعوبة إعادة بعض الجنسيات مثل الإيرانيين من دون اتفاق مسبق مع حكوماتهم.
عبّر الوزير السابق عن قناعته بأن تعديل قانون حقوق الإنسان سيكفي لإعادة التوازن بين السيادة الوطنية والالتزامات الحقوقية، دون الحاجة إلى الانسحاب الكامل من الاتفاقية.
وظيفة الاتفاقية
أبرزت "الإندبندنت" جانبًا آخر من النقاش حين تناولت حكم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لصالح ناشر صحيفة ديلي ميل ضد الحكومة البريطانية، حيث قضت هيئة من سبعة قضاة بأن فرض "رسوم نجاح" مرتفعة على الناشر بعد خسارته قضايا تشهير، يُعدّ انتهاكًا لحقه في حرية التعبير المنصوص عليه في المادة العاشرة من الاتفاقية.
تعود القضية إلى عام 2021، حين رفعت شركة أسوشيتد نيوزبيبرز ليمتد (ANL) دعوى أمام محكمة ستراسبورغ اعتراضًا على دفع رسوم قانونية بلغت 245,775 جنيهًا إسترلينيًا بالإضافة إلى ضريبة القيمة المضافة، كجزء من تكاليف قضية رفعها رجل ليبي يُدعى علاء الدين زكري بعد نشر بياناته عقب اعتقاله على خلفية تفجير مانشستر أرينا.
أُفرج عن زكري لاحقًا دون توجيه أي تهمة، لكنه حصل على تعويض قدره 83,000 جنيه إسترليني، بينما دفعت الشركة ما مجموعه 822,421.79 جنيه إسترليني لتغطية التكاليف.
المحكمة الأوروبية
رأت المحكمة –وفقًا لتغطية الإندبندنت– أن فرض هذه الرسوم "غير متناسب مع الهدف المشروع المنشود"، مؤكدة أن التدبير تجاوز "هامش التقدير الواسع" الممنوح للحكومة في هذا الشأن.
خلصت الهيئة إلى أن اشتراط دفع الرسوم بتلك النسبة "ينتهك حرية التعبير"، وأمرت الحكومة البريطانية بدفع 15,000 يورو تعويضًا للشركة، على أن يُبتّ لاحقًا في ما إذا كانت ستتحمل نحو 320 ألف جنيه إسترليني إضافية.
أكد الحكم أن حرية التعبير تظل مبدأً أساسيًا في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، حتى عندما يتعلق الأمر بمؤسسات إعلامية تنتقدها، ورغم وصف الحكومة البريطانية للدعوى بأنها "غير مقبولة"، فإن المحكمة شددت على أن حق المؤسسات الصحفية في الدفاع عن نفسها أمام المحاكم الدولية يمثل جزءًا من ضمانات الديمقراطية الأوروبية، بهذا الحكم، أعادت المحكمة التذكير بأن الالتزام بالاتفاقية لا يقتصر على حماية المهاجرين أو اللاجئين، بل يمتد إلى حماية الصحافة نفسها من القيود المفرطة.
لم تعد الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان مجرد وثيقة قانونية، بل أصبحت مقياسًا للعلاقة بين الدولة وحقوق مواطنيها، وتبرز الغارديان البُعد التاريخي والإنساني للاتفاقية، وتُظهر فايننشيال تايمز الصراع السياسي الذي يحاول تحويلها إلى أداة انتخابية، بينما تُعيد الإندبندنت التأكيد على وظيفتها الأصلية في حماية حرية التعبير.
تؤكد هذه التقارير أن مستقبل الاتفاقية في بريطانيا يتوقف على قدرة السياسة على استعادة المنظور الحقوقي الذي تأسست عليه أوروبا بعد الحرب، حين رأت أن الكرامة الإنسانية لا يمكن أن تخضع للتصويت أو المساومة.
ومع استمرار تصاعد الخطاب الشعبوي، يبدو أن الصراع على روح الاتفاقية لم يعد قانونيًا فقط، بل أصبح معركة حول معنى العدالة نفسها في المملكة المتحدة المعاصرة.










