أفغانستان على فوهة الألم.. حين تتقاطع الكوارث الطبيعية مع الاحتياجات الإنسانية

أفغانستان على فوهة الألم.. حين تتقاطع الكوارث الطبيعية مع الاحتياجات الإنسانية
أفغان فوق الأنقاض التي سببها الزلزال

تعيش أفغانستان واحدة من أكثر اللحظات قسوة في تاريخها الحديث، إذ تتوالى الكوارث الطبيعية على بلد أنهكته الحروب والعزلة والفقر، فبعد أقل من شهرين على الزلزال المدمّر الذي ضرب شرق البلاد، جاء زلزالان جديدان ليقضيا على ما تبقّى من بيوت مهدّمة وآمال واهنة، ويضعا ملايين الأفغان أمام واقع إنساني كارثي.

التحذير هذه المرة جاء من الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر الذي أطلق نداءً عاجلاً يوم الأربعاء، محذراً من أنّ المجتمعات الأفغانية تواجه دماراً واسعاً ومعاناة شديدة، وأن الأوضاع تتدهور بسرعة غير مسبوقة، في ظل أزمة اقتصادية خانقة وجفاف مستمر منذ ثلاث سنوات بحسب "أفغانستان إنترناشيونال".

مآسٍ تتكرر

ضرب الزلزالان الأخيران ولايتي بلخ وسمنغان في شمال أفغانستان، وهما من المناطق التي لم تتعافَ بعد من تبعات الزلزال السابق الذي هزّ شرق البلاد الصيف الماضي وأسفر عن مقتل أكثر من ألفي شخص في ولاية كنر، ووفقاً لسلطات حركة طالبان، فقد أودى الزلزال الجديد بحياة ما لا يقل عن 20 شخصاً وأصاب أكثر من 500 آخرين، في حين تضرّرت مئات المنازل والمنشآت الصحية.

وقال ريجيس سافيوز، المدير الإقليمي للجنة الدولية للصليب الأحمر في آسيا والمحيط الهادئ، إن "عائلات كثيرة استيقظت منتصف الليل على انهيار منازلها وفقدت كل ما كانت تملكه في لحظة واحدة"، مضيفاً أن فرق الإغاثة تواجه صعوبات شديدة في الوصول إلى القرى الجبلية المنكوبة بسبب الدمار في الطرق والانهيارات الأرضية التي أعقبت الهزات الأرضية.

وأشار سافيوز إلى أن اللجنة "تعمل بتنسيق وثيق مع جمعية الهلال الأحمر الأفغاني لتقديم المساعدات الفورية"، من خلال إرسال المستلزمات الطبية إلى المستشفيات في بلخ وسمنغان، إضافة إلى توفير البطانيات والأغذية وخزانات المياه للعائلات التي فقدت منازلها.

ثلاثية الموت البطيء

لم تكن الكارثة الطبيعية سوى فصل جديد في سلسلة طويلة من المعاناة، فقبل الزلازل، كانت أفغانستان ترزح تحت وطأة جفاف قاسٍ دمّر المحاصيل وأجبر مئات آلاف الأسر على النزوح نحو المدن أو إلى خارج البلاد، وتشير تقارير برنامج الأغذية العالمي إلى أنّ أكثر من 15 مليون أفغاني يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، في بلد يعتمد أكثر من 70% من سكانه على الزراعة بوصفها مصدر دخل أساسياً.

وفي ظل انهيار البنية التحتية وانقطاع المساعدات الدولية بعد سيطرة حركة طالبان على الحكم عام 2021، أصبحت الكارثة الطبيعية تتفاعل فوق أرض منهكة، فالمستشفيات تعاني من نقص في الأدوية والمستلزمات الطبية، والطرقات الجبلية المتهالكة تجعل من إيصال الإغاثة تحدياً لوجستياً ضخماً.

تقول سلمى نوري، وهي متطوعة في الهلال الأحمر الأفغاني بولاية بلخ: "الناس هنا لم ينهضوا بعد من صدمة الزلزال السابق. هناك قرى بأكملها مهدّمة، الأطفال ينامون في العراء، والبرد يقتلهم أكثر مما فعلت الهزات الأرضية".

الاقتصاد المنهار 

تتجاوز الأزمة الراهنة حدود الكارثة الطبيعية إلى مأساة إنسانية مركّبة، فالأزمة الاقتصادية الخانقة جعلت من الاستجابة للإغاثة مهمة شبه مستحيلة، ومنذ تجميد الولايات المتحدة مليارات الدولارات من الأصول الأفغانية عقب انسحابها من كابل عام 2021، يعيش النظام المالي الأفغاني حالة شلل شبه تام، في حين تعتمد الحكومة التي تقودها حركة طالبان على موارد محدودة من الضرائب المحلية والمساعدات الإنسانية.

ووفقاً لتقديرات البنك الدولي، يعيش أكثر من 90% من سكان أفغانستان تحت خط الفقر، ما يجعل أي كارثة طبيعية بمنزلة انفجار في جسد هشّ أصلاً، وبحسب الصليب الأحمر، فإنّ "الاحتياجات الإنسانية في أفغانستان تجاوزت قدرة أي منظمة منفردة على تلبيتها"، في وقت تقلّصت فيه ميزانيات الإغاثة الدولية بسبب الأزمات العالمية الأخرى، مثل حرب أوكرانيا والنزاعات في الشرق الأوسط.

العزلة السياسية تزيد الجراح

تواجه أفغانستان أيضاً عزلة سياسية خانقة منذ عودة طالبان إلى السلطة، حيث لم تعترف أي دولة حتى الآن بالحكومة القائمة رسميًا، هذا الوضع جعل التنسيق الدولي للإغاثة أكثر تعقيدًا، إذ تتردّد منظمات كثيرة في التعامل المباشر مع السلطات خوفاً من تبعات قانونية أو سياسية، في حين يدفع المدنيون ثمن تلك الحسابات.

ومع ذلك، أكدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنها "تتواصل بشكل وثيق مع سلطات حركة طالبان لضمان أمن وسلامة السجناء في السجون المحلية بعد الزلازل الأخيرة"، في إشارة إلى استمرار دورها بصفتها جسراً إنسانياً محايداً بين السلطة الحاكمة والمجتمع الدولي.

لكن مراقبين يرون أن غياب الاعتراف الدولي الرسمي بحكومة طالبان يعرقل وصول المساعدات ويضعف الشفافية والمساءلة، خصوصاً فيما يتعلق بتوزيع الدعم الإنساني في المناطق النائية التي تسيطر عليها فصائل محلية متشددة أو شبكات قبلية.

النساء في قلب المأساة

الأزمة الإنسانية في أفغانستان تحمل بعداً آخر لا يمكن تجاهله؛ هو معاناة النساء، فبعد سلسلة من القرارات التي قيّدت عمل النساء وتعليمهن، أصبح حضورهن في فرق الإغاثة محدوداً، ما يعوق الوصول إلى الأسر التي ترفض التعامل مع الرجال لأسباب ثقافية.

تقول ليلى أحمدي، وهي عاملة إغاثة محلية: "في بعض القرى، النساء لا يستطعن حتى مغادرة المنزل من دون مرافقة. كيف يمكننا إيصال الغذاء والمساعدة إذا كانت النساء ممنوعات من التواصل معنا؟"

هذا الواقع يجعل من النساء والأطفال أكثر الفئات هشاشة، حيث يعيش الملايين منهم اليوم بلا مأوى، وتتعاظم المخاطر الصحية بسبب البرد وسوء التغذية وانعدام الرعاية الطبية.

نداء دولي خافت

في السنوات الماضية، كانت أفغانستان على رأس أولويات الإغاثة العالمية، أما اليوم فقد تراجعت إلى الهامش، فبينما تتصدر الأزمات في غزة وأوكرانيا والنيل الأحمر نشرات الأخبار، تكاد مآسي كابل ومزار الشريف تمرّ بصمت.

يقول أحد مسؤولي الصليب الأحمر في جنيف: "إنها أزمة منسية. التمويل الدولي يتناقص، في حين أن عدد المحتاجين يزداد يومياً، لا يمكننا أن نطلب من الناس إعادة بناء حياتهم بلا أدوات، بلا مأوى، وبلا أمل".

ويرى محللون أن المجتمع الدولي يواجه اختباراً أخلاقياً حقيقياً: هل سيستمر في معاقبة حكومة طالبان عبر حرمان الشعب الأفغاني من المساعدات؟ أم سيتعامل مع الأزمة من منطلق إنساني بحت؟

الإنسان أولاً

بين الركام، ما زالت فرق الإغاثة تبحث عن ناجين، في حين يقف الأهالي على أنقاض منازلهم في انتظار المساعدة.

الصليب الأحمر دعا إلى تحرك دولي عاجل لدعم الجهود المحلية وتوفير التمويل اللازم لإعادة بناء المنازل والمستشفيات وشبكات المياه، مؤكداً أن "الاحتياجات لا يمكن تغطيتها عبر جهود محلية فقط".

وفي ظل استمرار الهزات الارتدادية، يخشى السكان أن يتحول شتاء هذا العام إلى فصل جديد من الجوع والبرد والموت، ومع ذلك، ما زال هناك أمل يضيؤه متطوعون محليون يعملون بلا انقطاع رغم نقص الموارد.

تقول سلمى، وهي تحاول مساعدة أسرة فقدت منزلها: "نحن لا نملك سوى أيدينا وقلوبنا، لكننا نعرف أن الصبر وحده لا يكفي. نحتاج أن يسمعنا العالم".

ليست مأساة أفغانستان قدراً محتوماً، بل نتيجة لتقاطع الكوارث الطبيعية مع الإهمال الدولي والاضطرابات السياسية، فالزلازل قد تكون عابرة، لكن زلزال الفقر والعزلة وانسداد الأفق باقٍ ويهدد حياة الملايين.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية