الصحة النفسية في إيران.. مؤشر إنذار يتصاعد بين مناخ مضطرب ومجتمع يعاني أزمات متراكمة
الصحة النفسية في إيران.. مؤشر إنذار يتصاعد بين مناخ مضطرب ومجتمع يعاني أزمات متراكمة
تكشف البيانات الرسمية الصادرة في إيران عن مسار مقلق في أوضاع الصحة النفسية بين المواطنين، فقد أعلن مدير مكتب الصحة النفسية والاجتماعية ومكافحة الإدمان في وزارة الصحة محمد رضا شالبافان أن انتشار الاضطرابات النفسية سجل ارتفاعاً خلال الأعوام الأخيرة وفقاً لأحدث دراسة أجريت عام 2021، ويشير هذا الاتجاه إلى وضع يتجاوز مجرد تغيرات عابرة في مؤشرات الصحة العامة ليعكس أزمة اجتماعية ونفسية قد تكون مرشحة للتفاقم إذا لم تتم مواجهتها ببرامج فعالة وحلول طويلة الأمد.
شالبافان أوضح في مقابلة مع وكالة إيلنا الإيرانية الخميس أن الأرقام الحالية أعلى من تلك المسجلة قبل سنوات، كما أنها تفوق في بعض جوانبها متوسطات دول المنطقة، ورغم أن بعض البلدان لا توفر مناخاً سياسياً يتيح للجهات العلمية إجراء دراسات مستقلة، ما يجعل الإحصاءات الرسمية غير دقيقة في أحيان كثيرة، فإن ذلك لا يقلل من خطورة الوضع داخل إيران حيث تتفق عدة مؤسسات بحثية على وجود زيادة حقيقية في أعراض القلق والاكتئاب واضطرابات الضغط النفسي.
المناخ مصدر متصاعد للتوتر
ترتبط الزيادة في الاضطرابات النفسية داخل إيران بعوامل معقدة ومتداخلة يتصدرها تغير المناخ وتداعياته، ويشير شالبافان إلى أن التلوث وازدياد الظواهر المناخية المتطرفة ووقوع الكوارث الطبيعية لم تعد مجرد أحداث بيئية، بل تحولت إلى ضغوط نفسية مزمنة، فالحوادث المرتبطة بالمناخ، من موجات الجفاف إلى العواصف الترابية والسيول، تؤثر في جودة الحياة اليومية وتزيد الشعور بانعدام الأمان النفسي خصوصاً لدى المجتمعات الهشّة.
ويحذر خبراء الصحة النفسية من أن التغير المناخي قد أصبح عاملاً مسهماً في تفاقم حالات القلق والاكتئاب، ولا سيما الفئات الأكثر عرضة للخطر مثل سكان المناطق الريفية والعمال ذوي الدخل المحدود والأسر التي تعاني من عدم استقرار اقتصادي، وفي ظل تصاعد التقارير العالمية حول الارتباط بين الكوارث البيئية والانتحار والاضطرابات النفسية، يزداد الضغط على الأنظمة الصحية لتطوير برامج وقائية تتعامل مع هذا النوع من التوترات الجديد نسبياً في المجتمعات النامية.
أزمات متشابكة تعمق الاضطراب
يرى شالبافان أن المناخ ليس وحده العامل الذي يثقل كاهل الصحة النفسية في إيران، فالأزمات الاقتصادية الممتدة، وتقلص فرص العمل، وارتفاع تكاليف المعيشة، إضافة إلى تأثيرات الأوبئة والحروب والنزاعات الإقليمية، تشكل منظومة من الضغوط المستمرة التي تهدد الاستقرار النفسي للأفراد، ويشير إلى أن السنوات الماضية شهدت سلسلة من الأحداث التي شكلت أزمات اجتماعية ونفسية طويلة الأمد سواء داخل إيران أو على مستوى المنطقة والعالم، ما جعل مستويات التوتر الجمعي أعلى من أي وقت مضى.
وفي الوقت الذي تتعدد فيه التحذيرات من المختصين حول ارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق، تكشف بيانات وزارة الصحة أن واحداً من كل أربعة أشخاص في إيران قد اختبر اضطراباً نفسياً واحداً على الأقل خلال العام الماضي، وهي نسبة أعلى بكثير من المتوسط العالمي المسجل في عدد من الدراسات الدولية.
إحصاءات تكشف عمق الفجوة
لم تكن تصريحات شالبافان الأولى من نوعها. ففي السادس من نوفمبر أعلنت رئيسة المركز الوطني لدراسات الإدمان في جامعة العلوم الطبية بطهران آفرين رحيمي موقر أن المعدل العالمي للإصابة بالاكتئاب يقارب سبعة في المئة في حين يرتفع في إيران ليقترب من ثلاثة عشر في المئة، وتؤكد هذه الفجوة حجم التحدي الذي تواجهه المنظومة الصحية في البلاد.
وتتوافق هذه الأرقام مع تقارير دولية أشارت إلى ازدياد ما يعرف بالقلق المناخي، وهو الشعور المتنامي بالخوف من مستقبل البيئة وتأثيرات الاحترار العالمي، ونقلت وكالة رويترز إشارات إلى ارتفاع حالات الانتحار المرتبطة بارتفاع درجات الحرارة، وهي ظاهرة بدأت تظهر في عدة دول وتعد إحدى النتائج المباشرة لتغير المناخ على الصحة النفسية، كما تناولت صحيفة "الغارديان" البريطانية التكاليف الخفية للأزمة المناخية مشيرة إلى ارتباط موجات الحر والصدمات البيئية بزيادات ملاحظة في الاكتئاب والقلق.
تأثير متضاعف في الفئات الهشّة
يتفق الباحثون على أن الأزمات النفسية التي تولدها الكوارث الطبيعية والمناخية تضرب بشكل أشد الفئات الأكثر ضعفاً، فالعائلات ذات الدخل المحدود التي تعيش في مناطق مهددة أو تعتمد في رزقها على الزراعة والرعي أكثر عرضة لخسائر اقتصادية مباشرة تجعلها أقل قدرة على التكيف، وتؤدي هذه الخسائر إلى ارتفاع مستويات التوتر وزيادة حالات الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة.
وتشير مراجعات الأبحاث العالمية إلى أن الناجين من الكوارث الطبيعية يسجلون معدلات عليا من اضطراب ما بعد الصدمة مقارنة بغيرهم، كما ترتفع بينهم معدلات القلق والاكتئاب لفترات طويلة، وفي إيران حيث يعاني كثيرون أصلاً من ضغوط معيشية واقتصادية، يمكن أن تتحول الأزمات المناخية إلى مضاعف إضافي يفتح الباب أمام اضطرابات نفسية أعمق وأكثر انتشاراً.
الحاجة إلى سياسة صحية شاملة
يؤكد الخبراء أن التعامل مع الاضطرابات النفسية يتطلب أكثر من تشخيصات وإحصاءات، فالتغيرات العميقة في نمط الحياة والمخاوف الاجتماعية والاقتصادية في إيران تتطلب استراتيجيات وطنية شاملة تشمل تحسين خدمات الصحة النفسية وتوسيع نطاق الدعم المجتمعي وزيادة برامج الوقاية، كما تتطلب هذه الجهود إدماج البعد النفسي في السياسات المناخية بحيث لا تقتصر الاستجابة على الجوانب البيئية فقط.
ومن الضروري، وفق المختصين، أن تتعامل الجهات المسؤولة مع الصحة النفسية بوصفها قضية تنموية لا مسألة طبية فقط، فتبني برامج لدعم الفئات الهشّة، وتوفير مراكز علاجية متخصصة، وتحسين الوصول إلى الخدمات النفسية في المناطق المهمشة، كلها عناصر أساسية لتخفيف الضغوط المتراكمة التي يعيشها الناس.
بين مخاطر الحاضر وظلال المستقبل
تكشف التصريحات الرسمية والتقارير الدولية صورة متشابكة تعكس مدى القلق الذي يعيشه سكان إيران، فالضغوط الاجتماعية والاقتصادية، إضافة إلى التحولات المناخية، تضع المجتمع أمام تحديات لا يمكن اختزالها في أرقام جامدة، إنها أزمة تحمل في داخلها أبعاداً إنسانية عميقة تبدأ من القلق اليومي حول المستقبل وتمتد إلى أنماط حياة متغيرة وبيئة عالمية غير مستقرة.
ومع استمرار ارتفاع معدلات الانبعاثات العالمية واتساع نطاق الكوارث المناخية، يبدو أن أعباء الصحة النفسية مرشحة للزيادة ما لم تتخذ الحكومات سياسات أكثر جرأة وشمولية لحماية مواطنيها، ويصبح السؤال المطروح ليس فقط كيف يمكن علاج الاضطرابات النفسية، بل كيف يمكن منع أسبابها أو الحد منها في مجتمع يواجه ضغوطاً متزامنة من جميع الاتجاهات.
تعد الصحة النفسية جزءاً أساسياً من مفهوم الصحة الشاملة الذي أعلنته منظمة الصحة العالمية، وتشير تقديراتها إلى أن واحداً من كل ثمانية أشخاص في العالم يعاني شكلاً من أشكال الاضطرابات النفسية، وتشمل أبرز هذه الاضطرابات القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة والإدمان، وتؤكد المنظمات الدولية أن التغير المناخي يمثل عاملاً مؤثراً في الصحة النفسية لما يولده من ضغوط اقتصادية واجتماعية وبيئية.
وتظهر دراسة مقارنة أن الدول ذات الأنظمة الصحية الأكثر مرونة وقدرة على الاستجابة تسجل معدلات أقل في الاضطرابات النفسية خلال الكوارث الكبرى، كما تشير الأبحاث إلى أن المجتمعات التي تتلقى دعماً نفسياً مبكراً تكون أكثر قدرة على التكيف بعد الأزمات، وفي سياق إيران تتقاطع الظروف البيئية والاقتصادية والاجتماعية لتشكل منظومة ضغوط تزيد من أهمية تطوير سياسات وطنية متكاملة للصحة النفسية تأخذ في الاعتبار احتياجات الفئات الهشّة وتربط بين الرعاية النفسية والتنمية الاجتماعية والاستجابة المناخية.










