أجور لا تكفي وحقوق مهدورة.. أزمات قطاع النسيج والأزياء تكشف ثمن العمالة الرخيصة

أجور لا تكفي وحقوق مهدورة.. أزمات قطاع النسيج والأزياء تكشف ثمن العمالة الرخيصة
أحد مراكز صناعة النسيج في آسيا

أطلقت منظمة العفو الدولية الخميس نداءً جديداً يضع قطاع صناعة الأزياء العالمية تحت مجهر المساءلة. المنظمة حذرت من استمرار نماذج إنتاج تعتمد على العمالة منخفضة التكلفة في أربعة من أبرز مراكز صناعة النسيج في آسيا، هي الهند وبنغلاديش وباكستان وسريلانكا، وسط بيئة عمل قالت إنها تتسم بانتهاكات واسعة النطاق لحقوق العمال وغياب الأجور العادلة.

الدعوة جاءت متزامنة مع نشر تقريرين بحثيين يسلطان الضوء على واقع يتجدد الحديث عنه منذ سنوات لكنه يزداد تعقيداً مع اتساع سلاسل التوريد العالمية وتنافس الأسواق على الإنتاج الأرخص بحسب فرانس برس.

تقصير الشركات في حماية العمال

وفقاً لمنظمة العفو الدولية، فإن الشركات العالمية التي تتصدر سوق الموضة لم تتخذ بعد الخطوات الضرورية لضمان الحد الأدنى من حقوق العاملين داخل مصانع التوريد التي تزودها بالمنتجات، وتشير المنظمة إلى أن غالبية العلامات التجارية الكبرى تعتمد نظام تعهيد الإنتاج عبر مئات المصانع في الدول الأربع، في حين لا تزال الرقابة على ظروف العمل داخل تلك المنشآت ضعيفة ومحدودة التأثير.

التقارير الجديدة استندت إلى نحو تسعين مقابلة في عشرين مصنعاً مختلفاً، ورغم أن العينة لا تمثل كل قطاع النسيج في تلك الدول، فإن النتائج كشفت أن الانتهاكات ليست حالات فردية بل نمط متكرر يؤثر في مساحات واسعة من القطاع، وتؤكد العفو الدولية أن هذه الشركات، وإن كانت تعلن التزامها النظري بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، فإنها تتردد في تطبيقها بصرامة على الأرض عند لحظة التعاقد والإنتاج والتسليم.

حرية إنشاء النقابات بين القيود والتهديد

أحد أخطر ما ورد في التقريرين هو توثيق انتهاكات واسعة لحرية إنشاء النقابات، فالعمال الذين تحدثوا للمنظمة أشاروا إلى تعرضهم لتهديدات مباشرة ومضايقات ممنهجة حين يحاولون تسجيل نقابة أو الانضمام إليها أو مجرد المشاركة في أنشطة مطلبية، بعضهم تحدث عن ضغوط تشمل النقل التعسفي، والخفض غير المبرر للأجور، وفصل العمال الذين يطالبون بتحسين بيئة العمل.

وترى المنظمة أن إضعاف النقابات هو المدخل الأبرز لاستمرار الانتهاكات الأخرى. فبدون إطار جماعي يحمي العمال، تصبح المطالبة بأجور عادلة مغامرة قد تكلف العامل وظيفته ومصدر رزقه في أي لحظة، وتضيف العفو الدولية أن النقابات في العديد من هذه المصانع تواجه في الغالب رداً قاسياً يشمل الرقابة اللصيقة، أو تدخل أصحاب العمل، أو إنشاء نقابات بديلة شكلية تمثل الإدارة أكثر مما تمثل العمال.

أجور هزيلة وساعات عمل مرهقة

تشغل صناعة الملابس ما يصل إلى أربعين في المئة من وظائف التصنيع في الدول الأربع، لكن حجم هذا التوظيف الضخم لا يعكس في الواقع قدرة العمال على تأمين احتياجاتهم الأساسية، الأجور التي يحصل عليها معظم العاملين تبقى في مستويات متدنية، لا تكفي لتغطية مصاريف المعيشة اليومية، فضلاً عن أعباء السكن والطبابة والتعليم.

عمال تحدثوا للمنظمة قالوا إنهم يعملون ساعات طويلة تتجاوز الحدود القانونية في بعض الأحيان، دون تعويض إضافي أو معاملة عادلة، كما أن جزءاً كبيراً من العمال يعمل بموجب عقود غير رسمية، ما يسهل على أصحاب العمل التنصل من مسؤولياتهم الاجتماعية والقانونية وترك العامل بلا ضمان صحي أو حماية وظيفية أو حق فعلي في التفاوض.

وتقول دومينيك مولر، الباحثة في مجال صناعة النسيج بمنظمة العفو الدولية، إن نموذج الصناعة القائم حالياً يتغذى على ضعف العمالة رخيصة التكلفة، وإن سلاسل التوريد تعتمد بشكل مباشر على واقع يتيح فائضاً كبيراً من العمال المستعدين لقبول ظروف صعبة بسبب غياب البدائل الاقتصادية، وتضيف أن الضغط العالمي لخفض تكاليف الإنتاج ينعكس بشكل مباشر على مستوى حماية العمال.

استبيان بلا إجابات كافية

ضمن عملية إعداد التقريرين، أرسلت منظمة العفو الدولية استبياناً إلى إحدى وعشرين شركة كبرى، تطلب فيه معلومات مفصلة حول سياساتها المتعلقة بحقوق الإنسان داخل سلاسل توريدها، ومنها آليات الرقابة، ومدى التحقق من احترام حرية إنشاء النقابات في المصانع المتعاقدة معها، ورغم تجاوب بعض الشركات شكلياً، تقول المنظمة إنها لم تحصل على أدلة كافية توضح ما إذا كانت هذه السياسات مطبقة فعلياً داخل المصانع.

هذا الغموض الذي يحيط بسياسات الشركات الكبرى يؤكد، وفق التقرير، أن التزامها بحقوق الإنسان لا يزال في مرحلة التصريحات العامة التي تضمن الحفاظ على السمعة في الأسواق الغربية، دون أن تنعكس بوضوح على ظروف العمل اليومية داخل المصانع، وتشير المنظمة إلى أن الشركات غالباً ما تعتمد على عمليات تدقيق خارجية، لكنها عمليات شكلية تركز على الجوانب التقنية وتغفل الممارسات الأكثر حساسية التي تجري داخل خطوط الإنتاج.

العمال بين صمت الحكومات وضغط السوق

الحكومات في الدول الأربع تتحمل جزءاً أساسياً من المسؤولية، كما تقول منظمة العفو الدولية، فهذه الدول تعتمد على قطاع النسيج بوصفه مصدراً رئيسياً للعملة الأجنبية، وتحرص على المحافظة على تنافسية منتجاتها في الأسواق العالمية، ما يجعلها تتردد في فرض معايير أكثر صرامة قد تزيد التكلفة على المستثمرين، لكن هذا التردد يعمق، وفق المنظمة، هشاشة وضع العمال ويجعلهم أكثر عرضة للانتهاكات.

تضيف المنظمة أن حماية العمال لا تتعارض مع مصالح الاستثمار، بل تجعله أكثر استدامة وأقدر على مواجهة الأزمات، إذ إن العمال الذين يتمتعون بحقوق عادلة وإطار نقابي قوي يسهمون في نظام إنتاج أكثر استقراراً وكفاءة.

خطوات مطلوبة على مستوى الصناعة

تطالب العفو الدولية الشركات العالمية باتخاذ إجراءات فورية وواضحة، منها مراجعة جذرية لسلاسل التعاقد وضمان وجود آليات مستقلة للتحقق من الامتثال للمعايير الدولية، إضافة إلى نشر نتائج عمليات التدقيق بشفافية، كما تطالب الحكومات بسن تشريعات تمنح العمال حرية تشكيل النقابات، وتوفير أجهزة رقابية قادرة على تطبيق القانون بشكل فعّال.

وترى المنظمة أن الاستجابة لهذه المطالب لم تعد مسألة اختيارية، بل ضرورة إنسانية واقتصادية في وقت تكشف فيه الأزمات العالمية هشاشة قطاعات تعتمد على الهامش الضيق بين الربح والخسارة، وعلى ملايين العمال الذين يعملون في الظل دون أن تنعكس إسهاماتهم على أبسط حقوقهم المعيشية.

تعد صناعة النسيج واحدة من كبرى القطاعات الاقتصادية في جنوب آسيا، وتستحوذ كل من الهند وبنغلاديش وباكستان وسريلانكا على نسبة كبيرة من الإنتاج العالمي للملابس الجاهزة التي تصدر إلى الأسواق الأوروبية والأمريكية، وتسارعت وتيرة الاعتماد على هذه الدول منذ تسعينيات القرن الماضي مع توسع العولمة وانخفاض تكاليف النقل، ما جعل سلاسل التوريد أكثر تشابكاً وأطول من أي وقت مضى.

 ورغم النمو الاقتصادي الذي حققه هذا القطاع، لا يزال العمال يواجهون مستويات عالية من الهشاشة الوظيفية نتيجة ضعف النقابات وغياب الضمانات الاجتماعية واعتماد المصنعين على التعاقدات قصيرة الأمد التي تفرضها الشركات العالمية لضمان الكلفة الأقل، وظل هذا الاختلال بين قوة الشركات وضعف العمال محوراً للانتقادات الدولية منذ عقود، في حين تبرز اليوم الحاجة إلى آليات أكثر قوة لضمان العدالة داخل هذا القطاع الحيوي.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية