رغم تصاعد التهديدات.. المرأة الليبية تُترك وحيدة في مواجهة العنف
رغم تصاعد التهديدات.. المرأة الليبية تُترك وحيدة في مواجهة العنف
في ظل موجة غير مسبوقة من الجرائم التي تستهدف النساء في ليبيا، يتزايد القلق من تحوّل العنف إلى جزء مألوف من الحياة اليومية، وإلى ظاهرة تتجاوز الحوادث الفردية لتكشف خللًا عميقًا في منظومة القيم والحماية القانونية والاجتماعية.
وفي الوقت الذي تتزايد فيه حالات القتل التي تطول النساء في مدن مختلفة، ترتفع أصوات باحثات وخبيرات للمطالبة بفهم جذور المشكلة ومعالجتها، قبل أن تتحول إلى حالة متجذرة يصعب كبحها.
هذا ما تؤكده الباحثة المتخصصة في دراسات المرأة والحوكمة ورئيسة منظمة نوازي للدراسات والتنمية حنين بوشوشة، التي قدمت قراءة موسعة أوردتها "وكالة أنباء المرأة" السبت، حول تصاعد العنف ضد النساء في ليبيا، مستعرضةً مستويات المشكلة من زوايا ثقافية وقانونية واجتماعية ونفسية، ومشيرة إلى أن تجاهل الأسباب العميقة سمح للعنف بأن ينمو ويتحول إلى جرائم قتل.
العنف سلوك متجذر
تقول بوشوشة، إن المجتمع الليبي يشهد تحولاً خطيراً في النظرة إلى العنف، إذ أصبح التعبير ذاته جزءاً من الحياة اليومية، وتحول إلى سلوك مقبول تجاه مختلف الفئات.
وتوضح أن علم الاجتماع يستخدم مصطلح العنف المعمم لوصف حالة مجتمع يتطبع مع العنف حتى يصبح مألوفاً، ما يفتح الباب أمام مستويات أشد خطورة تصل إلى القتل والتسبب بإعاقات دائمة وتفكك الأسرة والمجتمع.
وتعد أن هذا التطبع الاجتماعي جعل كثيرين يتعاملون مع العنف ضد النساء بوصفه أمراً عادياً، وأن تجارب النساء التي تخرج إلى العلن عبر وسائل الإعلام أو مواقع التواصل، وسرعة تداول أخبار القتل، تشير إلى تحول الظاهرة إلى مؤشرات بنيوية لا يمكن فصلها عن السياق الثقافي والسياسي العام.
تبرير مجتمعي
وتلفت بوشوشة إلى أن إحدى أخطر الظواهر التي ترافق تصاعد جرائم قتل النساء هي موجة التبرير الشعبي التي تظهر عقب كل جريمة، وتقول إن التعليق المتكرر: “أكيده دايرة حاجة” يعكس طريقة تفكير تُحمّل المرأة مسؤولية ما يقع عليها من عنف.
وتبرر للجاني فعله وتخفف عنه أي مسؤولية، وتضيف أن تحميل الضحية مسؤولية قتلها هو امتداد لنظرة أبوية ترى أن للرجال الحق في محاسبة النساء وفق معايير صارمة، في حين لا تُطبّق هذه المعايير على الرجال.
وتشير إلى أن هذا التبرير ليس مجرد رأي، بل هو آلية قادرة على تهيئة البيئة لجرائم جديدة، إذ يشعر الجاني بأنه محمي اجتماعياً، وأن فعله يجد قبولاً ضمن قيم تُعيد إنتاج التمييز.
التربية والعادات المتوارثة
وتوضح الباحثة أن جزءاً كبيراً من المشكلة مرتبط بالتنشئة الاجتماعية، إذ تُربى الكثير من النساء على قبول العنف ضدهن باعتباره جزءاً من العلاقة الأسرية، في حين يُكرّس المجتمع أمثالا وقيمًا تُعيد المرأة إلى دائرة اللوم حتى عندما تكون الضحية، وتورد مثلاً شعبياً شائعاً يقول "نردوها معاك لو طاح منها قرن"، وهو تعبير يعني إعادة المرأة إلى زوجها مهما كان حجم العنف الذي تعرضت له.
وتشير إلى أن الإرث الثقافي هذا ينعكس اليوم في عدد الجرائم الذي تجاوز عشرين جريمة قتل ضد النساء في عام 2025 وحده، مع اختلاف الدوافع بين قضايا الشرف والنزاعات العائلية والخلافات المالية، إضافة إلى جرائم ما تزال دوافعها غامضة.
وتؤكد بوشوشة أن غياب نظام قانوني فعّال لحماية النساء في ليبيا يجعلهن أكثر الفئات عرضة للخطر، وتقول إن البلاغات التي تقدمها النساء حول العنف غالباً ما تُعامل على أنها شأن أسري، ما يحول دون اتخاذ الإجراءات الرادعة، وتشدد على أن انتشار السلاح ووجود جماعات مسلحة خارج إطار الدولة يزيد من خطورة الوضع، ويجعل النساء الليبيات والمهاجرات في مواجهة العنف دون حماية.
وتنتقد استخدام ذريعة الشرف لتبرير القتل، مشيرة إلى أن القانون لا يمنح أحداً الحق في قتل إنسان تحت أي مسمى. وتقول إن الفكر الأبوي هو الذي يعمم هذه الذريعة على النساء، في حين يجري التعامل بتساهل شديد مع الرجال في السياقات نفسها.
ضرورة توفير بيوت آمنة
وترى الباحثة أن وصول العنف إلى حد القتل يستدعي تدخلاً عاجلاً من الدولة، من خلال تشريعات واضحة توفر الحماية، إضافة إلى تدابير وقائية تشمل إنشاء بيوت آمنة للنساء اللواتي يفتقدن ملاذاً آمناً، وتقول إن غياب هذا النوع من المؤسسات يجعل النساء مضطرات للبقاء في بيئات خطرة قد تهدد حياتهن.
وتعد أن الإفلات من العقاب يشكل عاملاً أساسياً في استمرار الجرائم، إذ يشعر الجاني بأن القانون والمجتمع يمنحانه غطاءً، خصوصاً في الجرائم التي تُصنف تحت مسمى الشرف، في حين تُحاسب المرأة بصرامة مضاعفة إذا ارتكبت فعلاً مشابها.
العنف في زمن الأزمات
توضح بوشوشة أن الأزمات والنزاعات التي شهدتها ليبيا رفعت مستويات العنف، كما يحدث في الدول التي تمر بظروف مشابهة، لكنها تحذر من استخدام الحرب ذريعة لتعليق كل السلوكيات عليها، وتستشهد بقضية مقتل الطبيبة العراقية بان زياد، وقضية الطبيبة الليبية أماني جحا، وتقول إن ما تكشف في التحقيقات حول تورط أفراد الأسرة كافة في جريمة أماني يكشف عمق الأزمة، ويستدعي دراسات نفسية واجتماعية معمقة لتفسير العوامل التي تدفع أسرة كاملة لارتكاب جريمة قتل.
وتقول إن تغير البنية الاجتماعية وازدياد الخلافات العائلية وتراكم الأزمات الاقتصادية، إضافة إلى التمسك بمفاهيم الشرف، كلها عوامل قد تجتمع لتنتج جرائم من هذا النوع، ما يتطلب جهوداً أكاديمية وبحثية لكشف أسبابها.
وتتوقف بوشوشة عند ما يعرف بالقتل الخطأ أثناء تنظيف السلاح، وتوضح أن الكثير من هذه الحالات يحدث في سياقات مشبوهة تتطلب دوراً حاسماً للطب الشرعي لتحديد ما إذا كانت الجريمة متعمدة أم ناجمة عن إهمال، خصوصاً عندما تكون الضحية امرأة ويجري تبرير مقتلها بخروج رصاصة عن طريق الخطأ.
وتطرح الباحثة قضية مقتل الخنساء مجاهد في طرابلس، وتقول إن التفاصيل تشير إلى أن الضحية كانت مستهدفة بشكل مباشر مع وجود طلقات مركزة في منطقتي الرأس والصدر، وتطرح أسئلة حول دوافع الجريمة، سواء كانت مرتبطة بكونها زوجة سياسي أو ناشطة أو شخصية عامة، مؤكدة أن النساء اليوم يشعرن بفقدان الأمان في الفضاء العام.
توسع دائرة الخطر
وتشير بوشوشة إلى أن المجتمع يعيش حالة صدمة متواصلة، لكن الخطر الأكبر يكمن في التعامل مع هذه الجرائم بوصفها حالات فردية، وتحذر من أن هذا الفهم يترك العاملات والناشطات والصحفيات في مواجهة العنف دون حماية، خاصة في ظل دراسة أجرتها منظمة نوازي أظهرت أن العاملات في المجال العام هن الأكثر تعرضاً للعنف الرقمي بنسبة وصلت إلى سبعة وستين في المئة، وأن هذا العنف الرقمي بدأ يتحول إلى تهديدات ميدانية وجرائم قتل.
وتشدد على ضرورة العمل على تغيير الصورة النمطية للمرأة، وتفعيل حملات توعية وحماية واسعة، إضافة إلى قانون خاص لمكافحة العنف ضد النساء لا يقتصر على إطار الأسرة فقط.
تتفق تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية على أن العنف ضد النساء في ليبيا تفاقم خلال السنوات الماضية نتيجة انتشار السلاح والانقسامات السياسية وضعف المؤسسات القضائية.
وتشير تقارير بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا إلى أن النساء يتعرضن لانتهاكات جسيمة تشمل القتل والاختفاء القسري والعنف الأسري والاعتداءات المرتبطة بالجماعات المسلحة، في حين تعاني الناشطات من تهديدات مباشرة تؤثر في مشاركتهن في الحياة العامة، كما تؤكد منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش أن الإفلات من العقاب يمثل العامل الأكبر في استمرار الجرائم، وأن غياب التشريعات المتخصصة يترك النساء دون حماية فعلية.
وتدعو هذه المنظمات إلى تطبيق إصلاحات قانونية واسعة، وتعزيز دور مؤسسات الحماية، وضمان وصول النساء إلى العدالة دون تمييز، باعتبار ذلك شرطاً ضرورياً لوقف موجة العنف التي تهدد حياة النساء ومستقبل المجتمع بأكمله.











