من فيتنام إلى غزة.. سجلّ الحروب يكشف الأثر البيئي الأكثر تدميراً في التاريخ الحديث
من فيتنام إلى غزة.. سجلّ الحروب يكشف الأثر البيئي الأكثر تدميراً في التاريخ الحديث
تضع الصراعات المسلحة والأنشطة العسكرية عبئاً بيئياً هائلاً على الكوكب، إذ تنتج الجيوش حول العالم نحو 5.5% من إجمالي انبعاثات غازات الدفيئة، وهي نسبة تفوق الانبعاثات الوطنية لدول كبرى مثل روسيا واليابان.
ورغم هذا الثقل المناخي، لا تُلزم الاتفاقيات الدولية الدول بالكشف عن الانبعاثات العسكرية، ما يجعل قطاع الدفاع واحداً من أكثر القطاعات الملوِّثة غير المحاسَبة والمسببة لأزمة المناخ العالمية.
وفق نتائج الدراسة التي نشرتها وكالة وطن للأنباء السبت نقلاً عن صحيفة الغارديان البريطانية، كان للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بين أكتوبر 2023 و2025 تأثير بيئي بالغ، إذ تشير التقديرات إلى أن البصمة الكربونية لتدمير القطاع وإعادة إعماره قد تتجاوز 31 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، وتُعزى أكثر من 99% من هذه الانبعاثات إلى العمليات العسكرية الإسرائيلية.
وخلال أول 120 يوماً فقط، تجاوزت الانبعاثات الناتجة عن القصف الجوي والبري الانبعاثات السنوية لـ 26 دولة. ومع احتساب عمليات إعادة الإعمار، يمكن أن تصل الحصيلة الإجمالية إلى 60 مليون طن، وهو مقدار يعادل الانبعاثات السنوية لدول صناعية مثل السويد أو البرتغال.
حروب متعددة
على مدى العقدين الماضيين، أدت الحروب الإسرائيلية المتكررة في فلسطين ولبنان وسوريا إلى انبعاث مئات ملايين الأطنان من ثاني أكسيد الكربون، مدفوعة بالاستهلاك الهائل للوقود وبتدمير البنى التحتية المدنية والصناعية، وتشير التقديرات إلى أن كمية الوقود العسكري المحروق منذ عام 2000 تُترجم إلى عشرات ملايين الأطنان من الانبعاثات.
وشهدت حرب فيتنام استخداماً واسعاً لمواد كيميائية هدفت إلى إزالة الغابات، أبرزها "العامل البرتقالي". وقد دُمر نحو 44% من غابات البلاد، ما أدى إلى إطلاق كميات هائلة من الكربون وفقدان أنظمة بيئية لم تتعافَ حتى اليوم.
وخلال حرب الخليج أشعلت القوات العراقية المنسحبة أكثر من 600 بئر نفطية في الكويت، ما أنتج انبعاثات تمثل 2–3% من الانبعاثات العالمية في ذلك العام وحده، انتشر السخام إلى مسافات بعيدة وترك آثاراً مناخية وصحية واسعة.
وأدت الحرب الأمريكية إلى موجات واسعة من الحرق والتخريب الصناعي، ما رفع انبعاثات العراق وأسهم في 15% من إجمالي عمليات حرق الغاز عالمياً عام 2020 بسبب فوضى ما بعد الصراع.
وفي أوروبا امتدت آثار الحروب في البلقان عام 1999 إلى تلوث كيميائي واسع نتج عن قصف منشآت صناعية، وفي حرب لبنان 2006، أدى استهداف محطة الجية إلى تسرب 15 ألف طن من الوقود الثقيل في البحر المتوسط.
وسجّل الجيش الأمريكي أكثر من 1.2 مليار طن من الانبعاثات خلال الحرب على الإرهاب، أكثر من 400 مليون طن منها نتجت عن العمليات القتالية المباشرة، خاصة الضربات الجوية واستهلاك الوقود في القواعد والمولدات.
بين فبراير 2022 و2023، أنتجت الحرب الروسية–الأوكرانية نحو 120 مليون طن من الانبعاثات، تعادل حصيلة دولة مثل بلجيكا لعام كامل. نصف هذه الانبعاثات تقريباً ستنتج لاحقاً خلال إعادة الإعمار.
انبعاثات تتجاوز دولاً صناعية
تشير تقديرات عام 2022 إلى أن القطاع العسكري العالمي يصدر 2.8 جيجاطن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون سنوياً، ولو كانت الجيوش دولة واحدة، لاحتلت المرتبة الرابعة عالمياً في الانبعاثات.
يُعد البنتاغون أكبر مؤسسة ملوِّثة في العالم، إذ ينتج أكثر من 59 مليون طن من الانبعاثات سنوياً ويحرق 270 ألف برميل من النفط يومياً.. مستوى يفوق الاستهلاك الوطني لدول متوسطة.
جيوش الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وروسيا والصين تُصدر انبعاثات ضخمة رغم غياب بيانات دقيقة بسبب السرية. كثير من الجيوش لا تدرج انبعاثات سلسلة التوريد أو تصنيع الأسلحة، ما يجعل الأرقام الحقيقية أعلى بكثير من المنشور.
الإنتاج الحربي قطاع عالي الكربون
يبلغ حجم مبيعات أكبر 100 شركة أسلحة في العالم 632 مليار دولار سنوياً. تصنيع الطائرات والدبابات والصواريخ يتطلب كميات ضخمة من الصلب والألومنيوم والطاقة.
على سبيل المثال، تستهلك المقاتلة F-35 حوالي 5,600 لتر من الوقود في ساعة طيران واحدة، ما ينتج أكثر من 14 طناً من ثاني أكسيد الكربون؛ أي ما يعادل انبعاث سيارة متوسطة لمدة تجاوز 10 سنوات.
يشير تحليل استقصائي إلى أن موجة إعادة التسلح قد ترفع الانبعاثات العسكرية بنحو 200 مليون طن سنوياً، ما يعادل إضافة دولة جديدة متوسطة الحجم إلى قائمة الملوثين الكبار.
ورغم تبني بعض الجيوش مبادرات للطاقة النظيفة، مثل استخدام الألواح الشمسية أو الوقود الحيوي، فإن غياب الشفافية يجعل هذه الوعود أقرب إلى "غسيل أخضر" لا تغيّر الصورة العامة.
وتكشف المعطيات أن الانبعاثات العسكرية ليست هامشية بل جوهرية في تفسير الارتفاع العالمي للغازات الدفيئة، فالحروب الحديثة تنتج كميات من الكربون تعادل حصيلة دول بأكملها، في حين يظل القطاع العسكري خارج نطاق المحاسبة الدولية.











