من صوت الأمة إلى المساواة.. "الست" يطرح معركة المرأة في الفن بين البيت والمجتمع
من صوت الأمة إلى المساواة.. "الست" يطرح معركة المرأة في الفن بين البيت والمجتمع
يقدم فيلم "الست" لمروان حامد قراءة سينمائية جريئة لشخصية الفنانة المصرية الراحلة أم كلثوم لا تسمح بإدراجها داخل قوالب التقديس التقليدية.. الفيلم لا يكتفي بسرد الميلاد الفني لأيقونة الطرب، بل يضع مسرحًا لصراع أعمق، تصنيفها الجنسي في مجتمع عربي متصلّب، ومعركة امرأة ضد توقعات جنسها، وضد آليات السلطة الثقافية والسياسية التي تحيط بالفن والهوية.
يظهر فيلم "الست" في زمن تتزايد فيه الضغوط على النساء في الفضاء العام، على الرغم من أن أم كلثوم تبقى ظاهرة فنية لا تُقارن، فإن التعامل معها في الفيلم يركز على ثنائية القوة والضعف، وعلى حقيقة أن النجاح الفني لا يحرّر المرأة بالضرورة من قيود التصنيف الاجتماعي والجندري.
اختار المخرج سردًا غير خطيّ، ينتقل من مشهد الأولمبيا في باريس إلى طفولة في الريف، لغة سينمائية تقطع بين العصور لتُظهر كيف تتبدّل شروط القوة عند المرأة عبر مراحل حياتها، وكيف تتحول هذه الشروط إلى أدوات سلطوية تمارسها المرأة نفسها أحيانًا.
الفيلم لا يزعم أنه يملك كل الإجابات، بل يفتح أسئلة جوهرية حول ما الذي يعنيه أن تكون امرأة ناجحة في مجال مُهيمن عليه بتوقعات ذكورية؟ كيف تتعاطى مؤسسات الفن والإعلام والدولة مع امرأة تفرض حضورها السياسي والاجتماعي عبر فنها؟
المساواة والتقدير في المجتمعات
في هذا السياق، يضرب "الست" مثالًا مزدوجًا، أم كلثوم ليست مجرد نجمة غنّت للجماهير، بل محرّكاً رمزياً اجتاز الحدود الجنسانية والدينية والسياسية، ما يجعل تناول سيرتها اختبارًا لصحة مقولات المساواة والتقدير في المجتمعات العربية، كثير من مداخل الفيلم تمضي في إثارة سؤال أخلاقي وسياسي هل احتفاء المجتمع بالنجاح الأنثوي يلازم الاعتراف بحقوق المرأة العامة والخاصة؟
حضور منى زكي في دور أم كلثوم لا يهدف إلى التقليد الشكلي فحسب، إنما إلى غوص تمثيلي في داخل شخصية تعرض تناقضاتها، صلابة تتجلّى في الأداء وإدارة المشهد العام، وهشاشة تظهر في اللحظات الخاصة، إعداد زكي الذي استغرق عامًا من تدريبات الغناء والحركة واللهجة، وطقوس يومية مطوّلة من مكياج وبروفات، ليس مجرد تفصيل فني، بل مؤشّراً على عبء تمثيل أيقونة نسوية أمام جمهور ذي ذاكرة متراصة بالصور المثالية.
النقد الذي واكب الإعلان الترويجي للّفيلم في مصر والذي أعاد فتح سجالات قديمة حول تجسيد الأيقونات النسائية على الشاشة، يدفعنا لقراءة العمل كاختبار لجسارة الصناعة الفنية على مواجهة جمهورها بما لا يرغب دومًا في رؤيته، إنسانية بطلاتها، بما في ذلك الضعف.
الأثر الحقوقي للعمل
النساء في مصر، كما في كثير من دول المنطقة، تواجه حواجزاً هيكلية في سوق العمل والوجود العام، بحسب بيانات مؤسسات دولية، ترتفع الفجوات في مشاركة النساء الاقتصادية والسياسية والتعليمية في المنطقة العربية، وتبقى نسبة مشاركة المرأة في القوة العاملة في مصر منخفضة نسبيًا "في مستوى يعكس تحديات هيكلية وثقافية"، ما يضع إنجازات أم كلثوم، بوصفها سابقة زمنية، في إطار استثنائي لا يعكس بالضرورة معايير المساواة العامة.
هذه الهوّة بين مكانة أيقونة فنية وموقع المرأة العاديّ في المجتمع هي ما يجعل الفيلم مادة مهمة للنقاش عن الحقوق والحريات والإنصاف الجنسي.
ويحفر "الست" في العلاقة بين الفن والسلطة، أم كلثوم، كما يذكّر الفيلم، تتعامل مع رمزية صوتها فتتحوّل إلى ميدان سياسي، تعاونها مع الجماهير وتلقّيها تكريمات رسمية، وفي المقابل مواجهتها نقدًا أو استبعادًا سياسيًا في فترات متقلبة، يكشفان عن تداخلات دقيقة بين الجندرة والشرعية الثقافية مشهد طلب جمال عبد الناصر لأغنية خاصة قد يستعاد بوصفه استدعاءً رسميًّا يمنح الفنانة موقفًا مؤسساتيًّا، لكنه أيضًا يضعها تحت رقابة مؤثرة، ويكشف هشاشة الاستقلالية الثقافية عند المرأة حين ترتبط بمراعاة سلطات الدولة أو التمثلات الاجتماعية، الفيلم يرصد كذلك كيف أن تمكين المرأة الثقافي لا يعني قطعًا مع العلاقات السلطوية التقليدية؛ بل أحيانًا هو شكل جديد من أشكال التأقلم معه أو العمل داخله.
المساحة التي يفتحها العمل لاستنطاق صعوبات المرأة في عالم الفن تتجاوز شخصية أم كلثوم لتصل إلى مشهد أوسع، فالإنتاج الفني العربي يظل محفوفًا بمقاييس الجندر في التحيز إلى أدوار نمطية، وفي قدرة الذكور على التحكم في الموارد والفرص، ما ينعكس على اختيارات التمثيل والسرد والتمويل.
وينجح الفيلم في تقديم صيغة سينمائية توازن بين الجذب البصري والتحليل النفسي، فالإيقاع المتسارع في مشاهد المدينة مقابل الهدوء الريفي في لقطات الطفولة، واستخدام الأبيض والأسود في استدعاءات زمنية، ليست مجرد أدوات تقنية إنها آليات سردية تصنع تاريخًا بصريًا يقود المشاهد إلى فهم كيف تُنسج أسطورة فنية عبر عمليات اجتماعية وثقافية طويلة.
الاختبار الشعبي الذي صاحَب الإعلان عن الفيلم وعن أداء منى زكي يكشف أيضًا عن مشاعر صراع داخلي في المجتمع، حين يرفض جمهورٌ صورةً جديدةً لشخصية محبوبة، فإنما يعبر عن مقاومة لفكرة أن تُعاد كتابة الأسطورة بدون إذن الجماهير.
حماية حقوق النساء
منظمات الأمم المتحدة تؤكد أن معالجة هذه الفجوات تتطلب تدخلات تشريعية وسياسات عامةٍ مُمَوَّنة، بما في ذلك دعم المشاركة الاقتصادية للنساء، وضمان حماية حقوقهن في الفضاء العام، وتوفير منصات تمثيلية عادلة في صناعة الثقافة.
ويبقى السؤال الأخطر، هل سينتج عن أعمال مثل «الست» تغييرٌ ملموس في طريقة تعامل الصناعة العامة مع النساء؟
الفيلم يثبت أن إعادة سرد سيرة امرأة كأم كلثوم بأسلوب إنساني ونقدي هي فعل حقوقي بامتياز، لأنها تسترد للمرأة صوتها الذي لا ينسجم بالضرورة مع قواعد البهاء المثالي أو القداسة الجندرية، وتطالب بالاعتراف بأن إنجازات المرأة حتى حين تُحتفى بها لا تعفيها من حواجز بنيوية تحتاج إلى إزالة.
الفيلم لا يمنح الإجابات كلها، لكنه يفتح نافذة لا بد أن يدخل منها النقاش العام عن الجندر والحقوق والثقافة في السنوات القادمة.
الصراع الجندري الخفي
قال الناقد السينمائي مصطفى الكيلاني، إن أداء منى زكي في فيلم «الست» يمثل لحظة فارقة في مقاربة السيرة الفنية من منظور حقوقي وجندري، لأنها -على حد تعبيره لم تكتفِ بتجسيد أم كلثوم كرمز أسطوري، بل قدمتها كامرأة تعيش داخل شبكة معقدة من التوقعات الاجتماعية والسياسية المفروضة على النساء في المجالين العام والخاص.
وأضاف الكيلاني في تصريحات لـ"جسور بوست"، منى نجحت في كشف الضغوط الخفية التي ظلت تلاحق أم كلثوم طوال حياتها ومسيرتها، وأن الفيلم من خلال أدائها أعاد طرح الصراع الجندري بواقعية بعيدة عن الخطابة أو التجميل، ليظهر كقضية حية تشكّل مصائر البشر، لا كموضوع للكتابة النظرية.
وأكد أن جوهر المعالجة يكمن في انتقال الفيلم من مستوى الخطاب المباشر إلى مستوى التفاصيل الدقيقة، حيث تصبح لغة الجسد، والصمت، والارتباك، والتوتر مع المحيط العائلي والمهني مدخلًا لفهم كيف كان النوع الاجتماعي يُعاد إنتاجه في حياة أم كلثوم، وكيف كانت خياراتها المهنية والشخصية تتشكل تحت وطأة توقعات المجتمع من المرأة وبرأيه، فإن قدرة منى زكي على الإمساك بهذه التفاصيل جعلت من أدائها «أداة نقدية» تكشف عن طبقات الشخصية، من دون الوقوع في فخ الاستنساخ أو التقديس.
وعن إخراج مروان حامد، قال الكيلاني إنه حافظ على مستوى عالٍ من الاحترام للسيرة، لكنه سعى في الوقت نفسه إلى خلق قراءة معاصرة تتناسب مع ذائقة اليوم، غير أن السيناريو -وفق تقييمه لم ينجح دائمًا في الحفاظ على تماسك البناء الزمني، إذ اعتمد في بعض المقاطع على أساليب تقليدية مألوفة في أعمال السيرة، ما أثّر على الإيقاع العام، وهو ما كان يمكن معالجته على مستوى الكتابة أو الإخراج.
أما رؤية الفيلم لشخصية أم كلثوم فيعتبرها الكيلاني محاولة لخلخلة الصورة النمطية التي أحاطت بالنجمة لعقود طويلة، إذ لا تُقدم أم كلثوم هنا كرمز أسطوري فحسب، بل كامرأة تواجه سلطة المجتمع وتفرض حضورها ضمن شروط اجتماعية غير متكافئة ومع ذلك، يشير إلى أن الفيلم يعود أحيانًا إلى الرؤى التقليدية التي اعتادت عليها أعمال السيرة، ما يجعل العمل يتحرك في مساحة وسطى بين الجديد والمعتاد، لكنه يفعل ذلك بنضج يحفظ للتجربة خصوصيتها.
وعمّا إذا كان الفيلم نقطة تحول، قال الكيلاني إنه قد لا يمثل انقلابًا فوريًا على نماذج السيرة الذاتية التقليدية، لكنه بالتأكيد سيكون مرجعًا نقديًا في المستقبل، وستُقاس عليه أعمال قادمة تحاول تقديم سير نسوية بأساليب أكثر تحررًا وواقعية.
واختتم حديثه قائلا، إن أداء منى زكي سيظل واحدًا من أبرز محطات مسيرتها الفنية، لأنه جمع بين الصدق والجرأة والقدرة على تفكيك شخصية معقدة لها مكانة خاصة في الوجدان العربي.
"الست" بعدسة حقوقية
قالت الحقوقية الدكتورة أسماء رمزي إن فيلم «الست» يقدّم عبر أداء منى زكي قراءة حقوقية وإنسانية عميقة للصراعات الجندرية التي تخوضها النساء في المجتمع المصري، مؤكدة أن الشخصية في الفيلم ليست مجرد دور درامي، بل مرآة تكشف بنية اجتماعية وسياسية كاملة تُعيد إنتاج التمييز ضد المرأة في تفاصيل الحياة اليومية.
وترى رمزي أن قوة الفيلم تكمن في تحويل التجربة الفردية إلى قضية عامة تتصل بالسلطة داخل المجال الخاص، وفي إظهار كيف تُفرض على المرأة أدوار محددة مسبقًا باعتبارها «الست المصرية» التي يُنتظر منها الطاعة والتضحية والصبر والالتصاق بدور الرعاية.
وأوضحت رمزي في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن شخصية منى زكي تُحاصَر داخل شبكة من الضغوط المزدوجة ضغوط الأسرة التي تستدعي معيارًا تقليديًا لتقييم المرأة، وضغوط المجتمع الذي يربط قيمتها بمدى التزامها بالنموذج المتوقع منها هذه التركيبة كما تقول تكشف أن الصراع ليس نفسيًا فقط، بل سياسياً واجتماعياً، لأنها تُظهر كيف تنتقل الهيمنة الجندرية من مؤسسات الدولة والشارع إلى تفاصيل البيت والعلاقة الزوجية ومسؤوليات الأمومة.
وأشارت رمزي إلى أن البناء الدرامي البطيء للفيلم ليس عيبًا، بل خياراً فنياً يعرّي البنية الاجتماعية من الداخل؛ فالإيقاع الممتد يُظهر تفاصيل دقيقة غالبًا ما تُهمل في الأعمال التقليدية توزيع الأعمال المنزلية، والعلاقة بين الزوج والزوجة، ومحاكمات المجتمع للمرأة عند اتخاذ قرار شخصي، وضغوط الأمومة ومسؤولياتها الثقيلة هذه التفاصيل، بحسب قولها، تلتقط اللحظات التي يتكوّن فيها التمييز الجندري، ليس عبر شعارات كبيرة، بل عبر طقوس يومية تُعيد إنتاج ما هو «طبيعي»، بينما هو في حقيقته اجتماعي ومفروض.
وترى رمزي أن الفيلم يحمل رسائل اجتماعية بالغة الوضوح، أولها أن المرأة ليست عنصرًا ثانويًا داخل الأسرة، بل عمودًا أساسيًا للحياة الاجتماعية، ورغم ذلك تُحاصرها توقعات تُقلّل من قيمتها وتُثقل كاهلها كما يطرح الفيلم فكرة أن الأدوار الجندرية ليست حقائق بيولوجية، بل بناء اجتماعياً يمكن إعادة التفكير فيه واحدة من أهم الرسائل، في رأيها هي أن الضغط النفسي والعاطفي الذي تعيشه النساء ليس نتيجة «حساسية زائدة»، بل نتيجة مباشرة لبنية عدم المساواة.
وفي ردها على ما إذا كان الفيلم يقدم قراءة جديدة لقضايا المرأة أم يكرر نماذج مألوفة، قالت رمزي إن العمل يستخدم مواد واقعية من حياة النساء في مصر لكنه لا يعيد إنتاجها بطريقة تقليدية، مؤكدة أن اللغة البصرية للفيلم تضيف ذلك العمق الإنساني، لأنها تتجنب الخطاب الوعظي وتذهب إلى السرد الحميمي الذي يُشرك المشاهد في التجربة لا في النصّ فقط.
وترى رمزي أن تأثير الفيلم على وعي المجتمع بقضايا النوع الاجتماعي قد يكون كبيرًا، لأنه يقدّم الحكاية من داخل البيت المصري، لا من منصات نظرية أو خطابات نخبويّة وبحسب قولها، فإن الفيلم قادر على فتح نقاش اجتماعي واسع حول توزيع المسؤوليات داخل الأسرة، وحول الضغط النفسي غير المرئي الذي تتحمله النساء يوميًا، إضافة إلى تسليط الضوء على مفهوم «التطبيع» مع الألم النسوي باعتباره جزءًا من الواجب الاجتماعي المفروض على المرأة.
واختتمت رمزي حديثها بقولها إن «الست» لا يُقدّم إجابات نهائية، لكنه يضع الأسئلة في مكانها الصحيح، داخل الحياة اليومية للنساء، حيث تتقاطع السياسة بالأسرة، والسلطة بالحب، والثقافة بالضغط النفسي، وهذا ما يجعل الفيلم شهادة فنية وحقوقية في آن واحد.










