رواتب مؤجلة وإدارة مرتبكة.. أزمة مؤسسات الدولة السورية الجديدة تهدد الأمن المعيشي لآلاف الأسر
رواتب مؤجلة وإدارة مرتبكة.. أزمة مؤسسات الدولة السورية الجديدة تهدد الأمن المعيشي لآلاف الأسر
تتعمق أزمة الرواتب والإدارة في عدد من مؤسسات الدولة الجديدة في سوريا، مخلفة حالة متزايدة من الغضب والقلق بين الموظفين، وسط شكاوى متكررة من تأخر صرف المستحقات، وفرض دوام كامل دون أجر، وتشديد أدوات الرقابة والتهديد بالفصل أو عدم تجديد العقود، في واقع يضع آلاف العاملين أمام ضغوط معيشية قاسية، ويعيد إلى الواجهة تساؤلات جوهرية حول قدرة المؤسسات الناشئة على إدارة المرحلة الانتقالية وتلبية أبسط حقوق العاملين فيها.
شكاوى متراكمة وغياب الشفافية
أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان، الأحد، أنه تلقى خلال الأشهر الماضية عشرات الشكاوى من موظفين في قطاعات حكومية متعددة، تحدثوا عن تأخر الرواتب دون أي توضيح رسمي أو جدول زمني للصرف، وأوضح موظفون بأنهم مطالبون بالالتزام بالدوام الرسمي الكامل، مع تطبيق أنظمة رقابة مشددة تشمل البصمة مرتين يوميا وبصمة الوجه عبر الكاميرات، في مقابل غياب أي ضمانة لتقاضي أجورهم، وتفرض هذه الإجراءات في سوريا الجديدة، بحسب العاملين، في بيئة يسودها الخوف من الفصل التعسفي أو عدم تجديد العقود السنوية.
كان قطاع التربية من أكثر القطاعات تضررا، إذ عانى عدد كبير من المعلمين من تأخر صرف رواتبهم للشهر الثاني على التوالي، ويعد المعلمون من الفئات الأكثر اعتمادا على الراتب الشهري لتأمين الاحتياجات الأساسية، ما جعل التأخير ينعكس مباشرة على استقرار أسرهم وقدرتهم على مواجهة تكاليف المعيشة المتزايدة، وتقدم بعضهم بشكاوى إلى جهات رقابية محلية، في ظل غياب أي تبرير رسمي أو بيان يوضح أسباب التأخير أو موعد معالجته.
تعليق الرواتب في مؤسسات أخرى
الأزمة لم تقتصر على قطاع التربية، إذ أشارت تقارير محلية إلى تعليق صرف الرواتب في مؤسسات وشركات عامة أخرى لفترات تراوحت بين 3 و4 أشهر في بعض الحالات، وهذا التعليق تم دون قرارات معلنة أو تفسيرات واضحة، ما زاد من شعور الموظفين بالهشاشة وانعدام الأمان الوظيفي، ودفع بعضهم إلى الاستدانة أو بيع مقتنيات شخصية لتغطية نفقات المعيشة.
الدمج المؤسسي ونتائج عكسية
على المستوى الإداري، كشفت عمليات الدمج المؤسسي في سوريا، خصوصا في قطاع الإنشاءات، عن مشكلات عميقة في التخطيط والتنفيذ، فقد جرى الترويج لدمج الشركات والفروع الإنشائية تحت إشراف مركزي باعتباره خطوة لتنظيم الموارد ورفع الكفاءة، إلا أن التطبيق العملي أفرز فراغا إداريا واضحا، وإخراج مديرين سابقين أو كف أيديهم تم دون تعيين بدلاء يتمتعون بصلاحيات واضحة، ما عطل سير الملفات المالية والإدارية، وعلى رأسها توقيع أوامر صرف الرواتب وتجديد العقود.
هذا الواقع أوجد ما يشبه الثغرات الإجرائية، حيث غاب مفوض التوقيع في عدد من الوحدات، وتعذر مواءمة أنظمة الصرف مع الهياكل الجديدة، وتأخر إعداد جداول الرواتب أو تحويلها إلى الجهات المختصة، كما انعكس ذلك على تأخير الترفيعات السنوية والعلاوات المرتبطة بها، ما فاقم شعور الظلم والإحباط لدى العاملين الذين يرون حقوقهم تتآكل تدريجيا.
العمل بلا أجر والتهديد بالفصل
في الشركات الإنشائية ومؤسسات أخرى داخل سوريا، خاصة تلك التي تعتمد على عقود سنوية، اشتكى موظفون من إلزامهم بالدوام الكامل رغم توقف أو تأخير الرواتب، مع تهديدات صريحة بالفصل أو عدم تجديد العقود في حال التغيب، بعض الحالات تجاوز فيها تأخير الدفع 50 يوما، في حين بقي موظفون آخرون 3 أشهر أو أكثر دون أي مصدر دخل، في وقت ترتفع فيه تكاليف المعيشة بشكل مستمر.
في قطاع التربية، زادت معاناة المعلمين مع تغيير آليات صرف الرواتب، حيث جرى الانتقال من الدفع عبر التطبيقات الإلكترونية إلى الاعتماد على مراكز البريد، وأدى هذا التغيير إلى طوابير طويلة واكتظاظ، وألقى بعبء إضافي نفسي ومالي على المعلمين الذين اضطروا إلى تكبد تكاليف تنقل وانتظار للحصول على مستحقاتهم المتأخرة.
انعكاسات على المرحلة الانتقالية
الأزمة لم تعد مجرد مشكلة مالية، بل تحولت إلى معاناة إنسانية واجتماعية عميقة يمر بها السوريون في المرحلة الانتقالية، ووصف موظفون أنفسهم بأنهم رهائن للخوف، خوف من الفقر، ومن فقدان الوظيفة، ومن العجز عن تأمين أساسيات الحياة، وهذه الضغوط لا تضرب فقط الاستقرار المعيشي للأسر، بل تقوض الثقة بالمؤسسات الجديدة، وتضعف شعور الانتماء والمسؤولية لدى العاملين، ما ينعكس سلبا على الأداء العام والإنتاجية.
يرى مراقبون أن استمرار هذه الأوضاع يهدد قدرة الدولة على إدارة مرحلة انتقالية يفترض أن تؤسس لعدالة اجتماعية واستقرار اقتصادي، فغياب التنظيم الإداري وضعف إدارة الموارد البشرية، إلى جانب إقصاء الكفاءات أو تهميشها، يؤثر مباشرة على تنفيذ المشاريع الحيوية، ولا سيما تلك المرتبطة بإعادة الإعمار والبنية التحتية.
مطالب بحلول عاجلة
مختصون في الشأن الإداري والمالي يؤكدون أن الحكومة مطالبة بإجراءات إسعافية فورية، تبدأ بتسمية قيادات مركزية واضحة الصلاحيات، وضمان وجود مفوضي توقيع محددين لصرف الرواتب، كما يشددون على ضرورة إعادة تنظيم آليات الدفع، ووضع خطة مالية طارئة لصرف المستحقات المتأخرة بدعم مباشر من وزارة المالية، إلى جانب فتح قنوات حوار جدي مع ممثلي العمال لحماية حقوق العاملين بعقود مؤقتة ومنع أي فصل تعسفي.
تكشف الوقائع التي يرويها الموظفون أن الانتقال إلى هياكل مؤسسية جديدة لم يواكبه انتظام إداري ومالي حقيقي، وفي ظل غياب قيادة كفؤة وحازمة، يبقى الموظف هو الحلقة الأضعف والخاسر الأول، في حين تتراجع وعود التغيير الاجتماعي والاقتصادي إلى هامش بعيد.
شهدت سوريا خلال الشهور الأخيرة محاولات لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة في إطار مرحلة انتقالية معقدة، شملت دمج إدارات وشركات عامة وتغيير آليات العمل والرقابة، إلا أن هذه التحولات جاءت في سياق اقتصادي شديد الصعوبة، مع تراجع الموارد وارتفاع معدلات الفقر والبطالة. وتؤكد تقارير محلية ودولية أن تأمين الاستقرار الوظيفي ودفع الرواتب بانتظام يمثلان ركنا أساسيا لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وضمان الحد الأدنى من العيش الكريم. من دون معالجة جذرية لأزمة الرواتب والإدارة، تبقى مخاطر التفكك الاجتماعي قائمة، وتظل تطلعات السوريين إلى دولة عادلة وقادرة على حماية مواطنيها مؤجلة إلى أجل غير معلوم.











