بين التلوث والجفاف.. نهر دجلة يحتضر ومجتمعاته مهددة بالزوال
بين التلوث والجفاف.. نهر دجلة يحتضر ومجتمعاته مهددة بالزوال
على ضفاف نهر دجلة، حيث تشكلت أولى ملامح الحضارة الإنسانية، يواجه العراق اليوم أزمة وجودية تتجاوز حدود البيئة لتصل إلى الإنسان والذاكرة والهوية، فالنهر الذي كان شريانا للحياة والزراعة والروحانية بات مهددا بالتلوث والجفاف، ما ينذر بتحولات جذرية في حياة المجتمعات القديمة التي ارتبط وجودها بالماء منذ آلاف السنين.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية، اليوم الثلاثاء، يعد الشيخ نيدام كريدي الصباحي البالغ من العمر 68 عاما شاهدا على هذا التحول القاسي، بصفته زعيما لإحدى الطوائف الدينية، لا يستطيع ممارسة أبسط طقوس حياته دون ماء جارٍ، فالماء بالنسبة له ولأتباعه ليس موردا طبيعيا فحسب، بل جوهر الإيمان نفسه، يؤكد الشيخ أنه لم يمرض يوما من شرب مياه نهر دجلة، لأنه يؤمن أن الماء ما دام جاريا فهو نقي، غير أن هذا اليقين الروحي يصطدم اليوم بواقع قاسٍ ينذر بتوقف الجريان ذاته.
يعيش المندائيون في جنوب العراق منذ أكثر من 1000 عام، وتحديدا في محافظة ميسان حيث تقع مدينة العمارة على ضفاف دجلة، يشكل الماء محور العقيدة المندائية، إذ تتطلب كل المناسبات المصيرية طقوس تطهير مائية، يبدأ الزواج في النهر، وينتهي العمر بطقس تطهير أخير قبل الموت، وفي المعتقد المندائي، كان الماء موجودا قبل الإنسان، وكان أحد العناصر التي خُلق منها آدم، ما يمنحه مكانة لا يمكن تعويضها أو استبدالها.
يعد نهر دجلة أحد ركيزتي بلاد ما بين النهرين، إلى جانب نهر الفرات، ينبع من جنوب شرق تركيا، ويجتاز الأراضي العراقية مرورا بالموصل وبغداد، قبل أن يلتقي بالفرات ليشكلا شط العرب وصولا إلى الخليج العربي، على ضفاف هذه الأنهار وُلدت الزراعة المنظمة، ودُوّنت أولى الكلمات، واخترعت العجلة، وتكونت اللبنات الأولى للحضارة الإنسانية، واليوم يعتمد نحو 18 مليون عراقي يعيشون في حوض دجلة على مياهه للشرب والري والنقل والصناعة وتوليد الطاقة.
انهيار بيئي متراكم
غير أن صحة نهر دجلة تتدهور منذ عقود، فبعد عام 1991 تعرضت البنية التحتية المائية في العراق لدمار واسع، ما أدى إلى تدفق مياه الصرف الصحي غير المعالجة إلى الأنهار، ومع سنوات طويلة من العقوبات والصراعات، لم تستعد منظومة المياه عافيتها، وتشير البيانات الحالية إلى أن 30 بالمئة فقط من الأسر الحضرية في وسط وجنوب العراق مرتبطة بشبكات معالجة الصرف الصحي، بينما تنخفض النسبة إلى 1.7 بالمئة في المناطق الريفية.
لا يقتصر التلوث على مياه الصرف البلدية، بل يشمل أيضا مخلفات الزراعة من أسمدة ومبيدات، والنفايات الصناعية ولا سيما من قطاع النفط، إضافة إلى النفايات الطبية، وقد أظهرت دراسة أجريت عام 2022 أن جودة المياه في العديد من مواقع بغداد صُنفت بأنها سيئة أو سيئة للغاية، وفي عام 2018 عولج ما لا يقل عن 118000 شخص في مستشفيات البصرة بعد تعرضهم لمياه ملوثة، في واحدة من أسوأ الأزمات الصحية المرتبطة بالمياه.
إلى جانب التلوث، يواجه نهر دجلة تراجعا حادا في منسوب المياه، فعلى مدى 30 عاما شُيدت سدود كبيرة في أعالي النهر، ما أدى إلى انخفاض كمية المياه الواصلة إلى بغداد بنسبة 33 بالمئة، كما أدت مشاريع تحويل المياه على الأنهار المشتركة إلى تقليص الموارد المائية المغذية لدجلة، وفي الداخل العراقي، يسهم سوء الإدارة والهدر في تعميق الأزمة، إذ يستهلك القطاع الزراعي وحده ما لا يقل عن 85 بالمئة من المياه السطحية.
مناخ يفاقم الأزمة
تلعب أزمة المناخ دورا مضاعفا في تعقيد المشهد؛ فقد سجل العراق انخفاضا بنسبة 30 بالمئة في معدلات هطول الأمطار، ويواجه أسوأ موجة جفاف منذ قرابة 100 عام، وتشير التوقعات إلى أن الطلب على المياه العذبة سيتجاوز العرض بحلول عام 2035، وخلال صيف هذا العام، انخفض منسوب نهر دجلة إلى حد سمح بعبوره سيرا على الأقدام في بعض المناطق، في مشهد صادم لسكان اعتادوا رؤية النهر عميقا جارفا.
يرى خبراء البيئة أن انخفاض منسوب المياه لا يعني فقط قلة الموارد، بل يؤدي أيضا إلى زيادة تركيز الملوثات، ما يجعل المياه المتبقية أكثر خطرا على صحة الإنسان، فالعلاقة بين كمية المياه وجودتها علاقة مباشرة، وكلما تقلص حجم النهر ازدادت سُمية مياهه.
اتفاقيات مثيرة للجدل
في نوفمبر وقعت بغداد وأنقرة اتفاقية تهدف إلى معالجة بعض مشاكل نهر دجلة، شملت وقف التلوث، وإدخال تقنيات ري حديثة، واستصلاح الأراضي الزراعية، وتحسين إدارة المياه، ووصفت الحكومة العراقية الاتفاقية بأنها الأولى من نوعها، غير أنها قوبلت بانتقادات واسعة من خبراء وناشطين بيئيين أعربوا عن قلقهم من غياب التفاصيل الملزمة، ومن منح الطرف الآخر نفوذا واسعا على ملف المياه.
وسط هذه التعقيدات، يخشى الشيخ نيدام على مستقبل المندائيين في جنوب العراق، فقد اضطر كثيرون منهم إلى مغادرة البلاد أو الانتقال إلى إقليم كردستان بحثا عن بيئة أكثر استقرارا، وتشير التقديرات إلى أن عدد المندائيين في العالم يتراوح بين 60000 و100000 شخص، بينما لم يتبقَ في العراق سوى أقل من 10000، ومع انحسار نهر دجلة، يواجه هذا الوجود التاريخي خطر الاندثار.
يعد نهر دجلة أحد أقدم الأنهار التي ارتبطت بتاريخ الإنسان وحضارته، وكان عبر آلاف السنين مصدرا للحياة والاستقرار في بلاد ما بين النهرين، إلا أن تراكم عوامل التلوث وسوء الإدارة وبناء السدود والتغير المناخي حول النهر من رمز للخصب إلى مؤشر على أزمة وجودية.
وتنعكس هذه الأزمة بشكل مباشر على المجتمعات التي تشكلت هويتها حول الماء، مثل المندائيين، وعلى ملايين العراقيين الذين يعتمدون على النهر في حياتهم اليومية، ومع غياب حلول جذرية وسريعة، يواجه دجلة خطر التحول من نهر صنع التاريخ إلى شاهد على فقدانه، في واحدة من أخطر الأزمات البيئية والإنسانية في المنطقة.











