رواتب مرتفعة في مراكز الاحتجاز تثير جدلاً بريطانياً حول أولوية الرعاية الصحية
رواتب مرتفعة في مراكز الاحتجاز تثير جدلاً بريطانياً حول أولوية الرعاية الصحية
أشعلت وزارة الداخلية البريطانية نقاشاً واسعاً بعد طرحها وظائف لأطباء الأسرة برواتب تصل إلى 135000 جنيه إسترليني سنوياً لتقديم الرعاية الصحية للمهاجرين المحتجزين في مراكز الاحتجاز بانتظار الترحيل. وأثارت الخطوة التي جاءت في وقت تعاني فيه هيئة الخدمات الصحية الوطنية من ضغط متزايد ونقص في الكوادر انتقادات حادة بسبب الفارق الكبير بينها وبين متوسط رواتب أطباء الأسرة العاملين في النظام الصحي العام.
فجوة واضحة في الأجور
بحسب ما ذكرته صحيفة "التليغراف" البريطانية السبت، يبلغ متوسط دخل طبيب الأسرة في هيئة الخدمات الصحية الوطنية نحو 79000 جنيه إسترليني سنوياً، في حين لا يتجاوز الحد الأقصى في معظم الحالات 120000 جنيه إسترليني، وهذا التفاوت جعل الإعلان عن وظائف برواتب عليا في مراكز احتجاز المهاجرين محط تساؤل واسع حول أولويات الإنفاق الحكومي وعدالة توزيع الموارد البشرية في قطاع يعاني أساساً من نقص حاد.
العمل داخل مراكز الاحتجاز
كما ذكرت “التليغراف” أن الأطباء المتعاقدين مع وزارة الداخلية في بريطانيا يتقاضون ما يصل إلى 520 جنيه إسترليني يومياً مقابل تقديم الرعاية الصحية للمهاجرين المحتجزين في مراكز مثل هيثرو وكولنبروك ويست درايتون، ويجري في هذه المرافق تقديم خدمات طبية لنحو 820 محتجزاً عبر موقعين رئيسيين، في بيئة تختلف جذرياً عن العيادات التقليدية أو المستشفيات العامة.
تشمل المهام الموكلة للأطباء إجراء جلسات سريرية منتظمة، وتنفيذ جولات تفقدية في أقسام المرضى الداخليين، وإجراء فحوصات دم، إلى جانب التعامل مع حالات معقدة لنزلاء لديهم تاريخ في تعاطي المخدرات أو يحتاجون إلى برامج إزالة السموم، ويُقدَّم هذا العمل على أنه فرصة لاكتساب خبرات مهنية نادرة لا تتوفر عادة في إطار الممارسة العامة التقليدية.
مزايا لجذب الكوادر
سعت الجهات المتعاقدة مع وزارة الداخلية إلى تسويق الوظائف من خلال حزمة مزايا إضافية، تشمل خصومات على التسوق والأنشطة الترفيهية، وخط دعم متاحاً على مدار الساعة، ومساعدات مالية عند الحاجة، إضافة إلى خيارات العمل المرن التي تتيح للأطباء الموازنة بين العمل في الموقع والعمل من المنزل، وهذه الحوافز اعتبرها منتقدون محاولة لتعويض الطبيعة الحساسة والمعقدة للعمل داخل مراكز الاحتجاز.
وأثار الإعلان ردود فعل قوية في الأوساط السياسية داخل بريطانيا، حيث اعتبر كريس فيليب وزير الداخلية في حكومة الظل أن ما وصفه بالمعاملة الاستثنائية للمهاجرين غير النظاميين يمثل عاراً، وأشار إلى أن المواطنين البريطانيين يواجهون فترات انتظار طويلة للحصول على مواعيد طبية أو لإجراء عمليات جراحية، في وقت تُخصص فيه موارد كبيرة لتقديم رعاية موسعة للمحتجزين بانتظار الترحيل، كما حذر من أن هذه السياسات قد تشجع مزيداً من المهاجرين على محاولة عبور القناة الإنجليزية.
قواعد رسمية للرعاية الصحية
تنص تعليمات وزارة الداخلية على أن المهاجرين المحتجزين يحق لهم الحصول على مستوى الرعاية الصحية ذاته الذي توفره هيئة الخدمات الصحية الوطنية، ويجري في هذا السياق الاعتماد بشكل متزايد على المادة 35 من قانون احتجاز المهاجرين التي تلزم الأطباء بالإبلاغ عن أي مخاطر صحية جسيمة أو مؤشرات على تعرض المحتجز للتعذيب، وفي بعض الحالات، قد تؤدي هذه التقارير إلى الإفراج بكفالة أو نقل المحتجز أو إعادة فتح ملف اللجوء الخاص به.
رؤية العاملين في الميدان
من داخل مراكز الاحتجاز يرى بعض العاملين في القطاع الصحي أن طبيعة العمل، رغم حساسيتها، تحمل جانباً إنسانياً ومهنياً عميقاً، فقد أكدت أنورادها الصيدلانية الرئيسية في مركز هيثرو لإعادة التأهيل أن دور الأطباء في هذه البيئة مجزٍ للغاية على الصعيد الإنساني، ويتطلب قدراً عالياً من الذكاء العاطفي والمرونة والتعاطف، وأشارت إلى أن الإجراءات الأمنية في هذه المراكز أكثر صرامة من المجتمع الخارجي، ما يفرض تحديات إضافية على الطواقم الطبية.
توضح أنورادها أن نمط العمل المرن الذي يسمح بالعمل ثلاثة أيام في الموقع ويومين من المنزل، يشكل عامل جذب مهماً للأطباء الباحثين عن توازن أفضل بين حياتهم المهنية والشخصية، وترى أن هذه المرونة، إلى جانب طبيعة الحالات الإنسانية التي يتعامل معها الأطباء، تفسر جزئياً الإقبال على هذه الوظائف رغم الجدل الدائر حولها.
رأي عام منقسم
في الشارع البريطاني ينقسم الرأي العام بين من يرى في هذه الخطوة التزاماً أخلاقياً بتوفير الرعاية الصحية لكل من يوجد على الأراضي البريطانية، بغض النظر عن وضعه القانوني، وبين من يعدها دليلاً على اختلال الأولويات في وقت يعاني فيه المواطنون من تراجع الخدمات الصحية وطول قوائم الانتظار.
يأتي هذا الجدل في سياق أزمة أوسع تعيشها هيئة الخدمات الصحية الوطنية التي تواجه نقصاً في التمويل والكوادر وارتفاعاً في الطلب على الخدمات، ويرى مراقبون أن تقديم رواتب عليا خارج إطار النظام العام قد يؤدي إلى استنزاف المزيد من الأطباء من القطاع الحكومي، ما يفاقم الأزمة بدلاً من معالجتها.
تشهد المملكة المتحدة منذ سنوات نقاشاً متصاعداً حول سياسات الهجرة واللجوء، وخصوصاً ما يتعلق باحتجاز المهاجرين بانتظار الترحيل وتكاليف هذه الإجراءات، وفي الوقت ذاته يواجه النظام الصحي العام ضغوطاً غير مسبوقة نتيجة زيادة عدد السكان وشيخوخة المجتمع ونقص الكوادر الطبية، وتأتي مسألة تمويل الرعاية الصحية للمهاجرين المحتجزين في قلب هذا الجدل، باعتبارها نقطة تقاطع بين الالتزامات الإنسانية للدولة والقدرة المالية للنظام العام وعدالة توزيع الخدمات بين المواطنين وغير المواطنين.











