حرية التعبير في خطر.. تونس تُحاكم الأصوات المعارضة بسيف "الأخبار الكاذبة"
عقب الحكم بسجن "سنية الدهماني"
في أحدث حلقات الجدل الحقوقي في تونس، قضت محكمة ابتدائية بسجن المحامية والإعلامية البارزة سنية الدهماني عامين، بتهمة "نشر أخبار كاذبة"، استنادًا إلى المرسوم 54، في خطوة وصفتها منظمات حقوقية وسياسيون بأنها "محاكمة سياسية وانتهاك صارخ لحرية التعبير".
قضت محكمة ابتدائية تونسية، في 30 يونيو المنقضي، بسجن المحامية والإعلامية سنية الدهماني سنتين، على خلفية تصريحات انتقدت فيها العنصرية في تونس، وذلك استناداً إلى المرسوم عدد 54 المثير للجدل، والخاص بمكافحة "نشر الأخبار الكاذبة".
قال المحامي سامي بن غازي، أحد أعضاء هيئة الدفاع، في تصريحات صحفية، إن الحكم الصادر بالسجن ضد موكلته سنتين، على خلفية تصريحات انتقدت فيها العنصرية الموجهة ضد المهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء في تونس.
وأضاف بن غازي في تصريح آخر: "ما يحدث هو مهزلة قانونية.. تحاكم سنية مرتين على التصريح ذاته"، وأكد أن هيئة الدفاع انسحبت من جلسة المحاكمة بعد رفض القاضي طلب التأجيل، معتبرةً الإجراءات "فاقدة للعدالة والشرعية".
وكانت الدهماني قد أُلقي القبض عليها في 11 مايو 2024، في أثناء بث مباشر من مقر نقابة المحامين التونسيين، بعد ظهور تلفزيوني شككت من خلاله في موقف الحكومة من المهاجرين، وتحدثت عن وجود "مقابر وحافلات مخصصة للسود" في جنوب البلاد.
مسلسل من المحاكمات
ليست هذه القضية الوحيدة التي تواجهها الدهماني (60 عامًا)، المعروفة بمواقفها المعارضة للرئيس قيس سعيّد، فقد سبق أن حُكم عليها في أكتوبر 2024 ابتدائيًا بالسجن عامين، قبل أن يُخفف الحكم في الاستئناف إلى 18 شهرًا، وفي يوليو من العام ذاته، صدرت بحقها عقوبة أخرى بالسجن سنة، خُفضت لاحقًا إلى ثمانية أشهر.
وتواجه الدهماني خمس قضايا منفصلة، جميعها مبنية على تصريحات إعلامية، وتُحاكم بموجب المرسوم الرئاسي عدد 54، وهو قانون للجرائم الإلكترونية أُقر في سبتمبر 2022 ويُجرّم نشر أو إعداد أو إرسال "أخبار أو بيانات كاذبة عبر أنظمة الاتصال".
ووصفت منظمة العفو الدولية في بيان صدر نهاية عام 2024، احتجاز سنية الدهماني بأنه "تعسفي وخالٍ من أي سند قانوني"، داعية إلى الإفراج عنها فورًا، وإغلاق القضايا المرفوعة ضدها.
وأوضحت المنظمة أن الدهماني محتجزة في سجن منوبة، في ظروف وصفتها بأنها "قاسية وغير إنسانية"، من بينها "الحرمان من الضروريات الأساسية"، ما يضيف بعدًا إنسانيًا مقلقًا على القضية.
في مرمى الانتقادات المتواصلة
منذ صدوره، أثار المرسوم عدد 54 موجة انتقادات محلية ودولية. وتقول منظمات حقوقية إنه أصبح أداة بيد السلطة لـ"تكميم الأفواه وقمع الأصوات المعارضة"، في وقتٍ تتسع فيه دائرة الملاحقات القضائية لتشمل إعلاميين، ومحامين، وصناع محتوى.
وفي 20 مايو 2024، أصدرت ثمانية أحزاب معارضة، بينها "التيار الديمقراطي" و"آفاق تونس" و"حزب العمال"، بيانًا مشتركًا أدانت فيه "الإيقافات السياسية" وطالبت بإلغاء المرسوم 54، معتبرة إياه خطرًا على حرية الرأي والتعبير في تونس.
لم تمض أيام على الحكم ضد الدهماني، حتى قضت محكمة تونسية بسجن كل من المحلل السياسي مراد الزغيدي والإعلامي برهان بسيس سنةً لكل منهما، بسبب تصريحات نُشرت عبر وسائل الإعلام اعتُبرت مسيئة للسلطة.
ووفقًا للناطق باسم المحكمة الابتدائية، محمد زيتونة، فإن الحكم صدر بموجب المادة المتعلقة باستخدام أنظمة الاتصال "لنشر أخبار كاذبة تمس الأمن العام".
وفي أبريل الماضي، أصدرت المحكمة أحكامًا أخرى بالسجن تراوح بين سنتين وثلاث سنوات بحق خمسة من صناع المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي، بينهم ثلاثة شبان وفتاتان، في قضايا تصنف ضمن مخالفات المرسوم ذاته.
موقف دولي وتحفظات رئاسية
أعربت الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي عن قلق بالغ إزاء حملة التوقيفات والملاحقات، إلا أن الرئيس قيس سعيد رد على هذه التصريحات واصفًا إياها بـ"التدخل السافر في الشأن الداخلي"، وكلف وزارة الخارجية باستدعاء ممثلي هذه الدول لتأكيد رفضه.
وفي المقابل، دعت نقابة الصحفيين في تونس خلال فبراير الماضي إلى إلغاء المرسوم 54 بشكل كامل، مشيرة إلى أنه "يهدد حرية الصحافة ويقيد عمل الصحفيين"، ويجب وقفه لضمان حرية الرأي في البلاد.
ووصف بسام الطريفي، رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، الحكم الصادر بحق الدهماني بأنه "ظلم ما بعده ظلم"، مضيفًا في منشور عبر صفحته على فيسبوك أن "حق الدفاع قد انتُهِك"، بالتوازي مع تفعيل هاشتاغ باسم "#الحرية_لسنية_الدهماني".
الموقف من القضية
في ظل الجدل المتصاعد بشأن الحكم الصادر بحق المحامية والإعلامية التونسية سنية الدهماني بالسجن عامين، عبر المحلل السياسي التونسي المقيم في فرنسا، نزار الجليدي، عن موقفه من القضية، مشيرًا إلى أن المسؤولية مشتركة، وأن الأزمة تكشف خللاً أعمق في الإطار القانوني والإعلامي بالبلاد، داعيًا إلى إعادة تشكيله وفق مقاربة وطنية.
وقال الجليدي في تصريح لـ"جسور بوست": "الأصل في القانون التونسي، كما في القانون المقارن والدولي، أن الأحكام القضائية لا تناقش إلا داخل أروقة المحاكم، لكن أمام انتشار الخبر وتداوله على نطاق واسع منذ صدور الحكم، ومن منطلق مواطنتي التونسية، لا أستطيع أن أتخلف عن إبداء بعض الملاحظات".
وتحدث الجليدي عن أجواء الجلسة الأخيرة، قائلًا: "الجو كان مشحونًا، خصوصًا من جهة هيئة الدفاع، التي تمسكت بأن القضية سبق أن حُكم فيها، وأن الألفاظ محل التجريم كانت موضوع حكم سابق، وقد طالب المحامون بتأجيل الجلسة لتقديم نسخة من ذلك الحكم، لكن التساؤل المطروح هنا: ألم يكن من الأجدى تقديم الحكم في الجلسة نفسها لإحراج المحكمة قانونيًا، وعندها يمكن استخلاص نتائج قانونية وسياسية بوضوح؟".
وأضاف الجليدي أن سنية الدهماني ليست صحفية بالتكوين، بل محامية تدرك جيدًا الحدود الفاصلة بين حرية التعبير والتحريض السياسي، قائلاً: "كانت تمارس، في وسائل الإعلام ومنصات التواصل، خطابًا يتجاوز حدود النقد إلى التجييش والتحامل السياسي، وهو ما أدى إلى تباين حاد بين مواقف الاتهام والقضاء من جهة، وفريق الدفاع والمتعاطفين معها من جهة أخرى".
المرسوم 54 بين الحاجة والتشدد
وفي تقييمه لمرسوم الجرائم الإلكترونية المعروف بـالمرسوم 54، أوضح الجليدي أن هذا التشريع جاء استجابة لحالة "الانفلات الإعلامي وتسلل المال السياسي إلى الفضاء الإعلامي" خلال السنوات الماضية.
ومضى قائلا: "عند صدوره، كان هناك شبه إجماع على ضرورة تنظيم هذا المجال، لكن بعد فترة، بدأ الجدل يتزايد بشأن قساوة العقوبات التي يتضمنها، مضيفًا: "شخصيًا أنضم إلى الأصوات التي تدعو إلى مراجعة هذا المرسوم، وملاءمته مع الواقع الإعلامي التونسي الجديد".
واختتم الجليدي حديثه داعيا إلى إطلاق مبادرة مجتمعية لإعادة تشكيل المشهد القانوني والإعلامي، على أسس تراعي الخصوصية الوطنية، قائلاً "نحن بحاجة إلى تصور جديد يعيد التوازن بين حرية التعبير والمسؤولية، بعيدًا عن القوالب الغربية التي تمنح الحرية للإعلام ما دام متماهيًا مع مصالح لوبيات معينة، وتسلبها حين يخرج عن هذا الخط. لا بد من إعادة التأسيس، لا الاكتفاء بالترقيع"، بحسب تعبيره.
تجاوز حدود الردع القانوني
بدورها، أكدت خولة بوكريم، مديرة موقع "تونس ميديا" والناشطة في مجال حقوق الإنسان، أن تونس تمر بمرحلة مقلقة من القيود المتصاعدة على الحريات، مستهدفةً المعارضين السياسيين والفاعلين الحقوقيين والصحفيين.
وفي حديثها لـ"جسور بوست"، أوضحت بوكريم أن هذا التضييق يأخذ أشكالًا متعددة، منها الإسراع في الإحالة إلى المحاكم، وانتهاك شروط المحاكمة العادلة، إلى جانب حملات التشويه الإعلامي التي تنفذها منصات رقمية محسوبة على السلطة، خاصة على الرئيس قيس سعيد.
وقالت إن المرسوم 54 لم يعد مجرد أداة قانونية، بل تحول إلى وسيلة ترهيب تستهدف كل من يعبر عن رأيه، حيث يُستخدم لفرض أحكام بالسجن على الصحفيين والمعارضين، مضيفة أن التضييق لا يقتصر على السجناء أنفسهم، بل يطول أيضًا عائلاتهم، من خلال نقلهم إلى سجون بعيدة ومعزولة، ما يعقد إجراءات الزيارة، ويزيد من الضغط على هيئة الدفاع.
واختتمت بوكريم تصريحها بالتشديد على أن أي مسار إصلاحي حقيقي في تونس لن يكون ممكناً ما لم يُلغَ المرسوم 54، ويتم فتح حوار وطني شامل، ويتوقف الرئيس عن إطلاق خطابات التخوين التي يصم بها معارضيه ويتهمهم بالعمالة والتبعية للخارج.
واستُخدم المرسوم عدد 54 في تونس، إلى جانب قوانين مكافحة الإرهاب واتهامات "التآمر على أمن الدولة"، لتبرير اعتقال العشرات، وتضييق الخناق على الحريات العامة.
ومنذ إعلان الرئيس قيس سعيد حل البرلمان وتعليق العمل بالدستور في يوليو 2021، دخلت تونس مرحلة من الحكم الفردي والتضييق على الحريات، بحسب منظمات حقوقية دولية.
وقد تم توسيع صلاحيات الرئيس بشكل كبير من خلال مراسيم رئاسية، أبرزها المرسوم عدد 54، الذي يُستخدم اليوم لملاحقة الصحفيين والنشطاء بتهم تتعلق بنشر "الأخبار الكاذبة".