الاقتصاد التضامني في تونس.. درع النساء ضد الفقر والتهميش
الاقتصاد التضامني في تونس.. درع النساء ضد الفقر والتهميش
في ظل أزمة اقتصادية تتعمق يومًا بعد يوم، تعيش النساء في تونس، لا سيما في المناطق الريفية والهشة، على وقع تحديات مركّبة من فقر، تهميش، وبطالة مزمنة، لكن وسط هذا الواقع القاسي، برز الاقتصاد التضامني والاجتماعي كأداة فعالة بيد النساء أنفسهن، لإعادة بناء الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي، وتحويل مواقع الهشاشة إلى مساحات إنتاج، وفضاءات للتمكين المجتمعي.
لا يتوقف هذا الاقتصاد البديل عند كونه إطارًا للرزق، بل يتعداه ليصبح وسيلة نضال اجتماعي تقوده النساء، ويستند إلى مفاهيم التعاون، والعدالة، والمشاركة، والقيادة الجماعية، بحسب ما ذكرت وكالة "JINHA"، اليوم الاثنين.
ورغم أن مصطلح "الاقتصاد التضامني والاجتماعي" يبدو حديثًا، فإن نساء تونس عرفنه بطريقتهن الخاصة منذ بدايات القرن العشرين، عندما كانت بعضهن يُدرن مجموعات منزلية صغيرة لصناعة الحلوى أو الأفرشة، ويتقاسمن الأرباح بطريقة تعاونية دون أن يعلمن أنهن يؤسسن لنموذج تنموي بديل.
وقبل الاستقلال، شكّلت الأوقاف والأحباس أحد الموارد التي وفرت خدمات مجتمعية للنساء، لكن بعد إلغائها عام 1957، واصلت النساء تنظيم أنفسهن بشكل غير رسمي، دون دعم مؤسساتي أو اعتراف قانوني.
هذا الاعتراف لم يتحقق إلا في عام 2020، حين صدر قانون الاقتصاد التضامني والاجتماعي، واضعًا هذه المبادرات على سكة الشرعية، وموفرًا لهن إطارًا قانونيًا يعزز دورهن في التنمية والتمكين.
تعزيز القيادة التحويلية
تقول مريم الجربي، من مركز المرأة العربية للبحوث والتدريب "كوثر"، إن المركز عمل خلال العامين الماضيين على مشروع لتعزيز القيادة التحويلية الجماعية، يهدف إلى نقل النساء من موقع المتلقي إلى الفاعل، وإشراكهن في صنع القرار المحلي والاقتصادي.
وأضافت: "اشتغلنا في ولايات مثل قفصة ونابل، بالشراكة مع البلديات والمجتمع المدني، على مشاريع بيئية واقتصادية بقيادة نسائية، وأحدثنا مواطن شغل، وأعدنا تعريف صورة المرأة الريفية التي طالما صُوّرت كمستفيدة لا غير".
في ولاية قفصة، أعادت النساء الاعتبار لصوف الأغنام، الذي كان يُعتبر نفاية لا قيمة لها، فحوّلن المادة إلى أغطية تقليدية تُباع في الأسواق.
وفي الواحات، أسّسن وحدات لتحويل بقايا النخيل إلى سماد عضوي، بالشراكة مع البلديات التي وفرت لهن المقرات والدعم اللوجستي.
أما في نابل، فقد قدن مبادرات لإعادة تدوير النفايات العضوية، وشارك الأطفال في ورشات توعوية بيئية داخل دور الشباب، مما عزز ثقافة الاستدامة، وأرسى أسس الاقتصاد الدائري.
تقول الجربي إن نجاح هذه المشاريع لم يقتصر على الجانب الاقتصادي، بل امتد إلى التمكين السياسي والاجتماعي، حيث بدأت النساء في التأثير في السياسات المحلية، وبناء مشاريع تشاركية قائمة على الحوكمة المجتمعية.
يعملن بروح تشاركية
واحدة من أبرز القصص الملهمة تأتي من ولاية بن عروس، حيث تترأس تقوى مرغرني مجمعًا نسائيًا يضم 30 امرأة يعملن بروح تشاركية.
تقول تقوى: "بدأنا بـ60 امرأة في 2015.. لم نملك إمكانيات، لكننا وفرنا مقراً لعرض المنتجات، وشاركنا في المعارض المحلية، وخلقنا لأنفسنا فضاءً آمنًا للإنتاج والعمل المشترك".
وأكدت أن التجربة لم تُحقق دخلاً فقط، بل أسست لعلاقات دعم متبادل بين النساء، ومكّنت الكثيرات من الخروج من دائرة التبعية والبطالة، ليصبحن قائدات لمشاريع ومبادرات اقتصادية واجتماعية في جهاتهن.
بناء الوعي الجماعي
بحسب مريم الجربي، فإن التجربة التونسية في الاقتصاد التضامني أظهرت أن التمكين الحقيقي لا يبدأ بالمال، بل ببناء الوعي الجماعي القادر على تغيير القواعد، والتأثير في القرار، والتصدي لسياسات التهميش.
وتؤكد أن المرأة التي تعلّمت كيف تدير تعاونية صغيرة، بات بإمكانها أن تدير حيّها، وتضع ميزانية بلديتها، وتفاوض على موارد التنمية. هذا التحول في الأدوار هو جوهر المشروع، ومصدر قوته.
الاقتصاد التضامني والاجتماعي في تونس ليس مجرد بديل اقتصادي، بل هو مشروع حقوقي نسوي بامتياز. هو حركة صامتة تصنعها نساء من الظل، وتنتجها يومًا بعد يوم داخل البيوت والمزارع والمشاغل المجتمعية.
واليوم، تقف مئات النساء على عتبة جديدة من الإدماج الاقتصادي والسياسي، لا كأرقام في تقارير المساعدات، بل كقائدات تغيير يرسمن خريطة تنمية أكثر عدالة وكرامة.