دم ونار في شوارع بورت أو برنس.. عنف العصابات يُغرق هايتي في أزمة إنسانية لا تنتهي

دم ونار في شوارع بورت أو برنس.. عنف العصابات يُغرق هايتي في أزمة إنسانية لا تنتهي
عنف العصابات في هايتي

 

في شوارع بورت أو برنس، عاصمة هايتي التي صارت عنواناً للفوضى، لا تكتفي العصابات بقتل الأبرياء، بل تبث رسائل رعب موقعة بالنار والدخان، ففي حادثة لا تُنسى خلال أبريل الماضي، استولت عصابتان على محطة إذاعية محلية، بثّتا من خلال أثيرها موسيقى هيب هوب تمجد جرائمهم، ثم غادرتا بعد نهب المعدات وإحراق سوق مجاور. حادثة تختصر صورة بلدٍ باتت فيه الجريمة لغةً يومية، والموت خبراً معتاداً.

لكن ما توثقه الأرقام أكثر فظاعة من كل الحكايات الفردية، وبحسب الأرقام المرصودة أسفر العنف المسلح في هايتي بين أبريل ونهاية يونيو 2025، عن مقتل 1520 شخصاً وإصابة 609 آخرين، وفقاً لتقرير حديث صادر عن مكتب الأمم المتحدة في هايتي (BINUH)، وهذه الحصيلة الدموية تتجاوز مجرد الأرقام؛ هي قصص حياة أُطفئت قسراً، وأُسر تشردت، وأحلام سُرقت.

الجريمة تتسلل إلى الجغرافيا والوجدان

لم يعد العنف مقتصراً على العاصمة، إذ بعد اغتيال الرئيس جوفينيل مويس في يوليو 2021، تصاعدت سطوة العصابات بوتيرة غير مسبوقة، وتشير تقديرات الأمم المتحدة الأخيرة إلى أن هذه الجماعات الإجرامية تسيطر حالياً على 85% من بورت أو برنس، وفي الأشهر الماضية توسع نفوذها إلى مقاطعتي أرتيبونيت والمركز، لتُعمق معاناة آلاف العائلات.

ووفقاً للمنظمة الدولية للهجرة، شهد شهر يونيو وحده نزوح 45 ألف شخص إضافي في هاتين المقاطعتين، ليصبح إجمالي عدد النازحين هناك أكثر من240 ألفاً، أما على مستوى البلاد، فارتفع عدد النازحين داخلياً إلى أكثر من 1.3 مليون شخص.

هذه الأرقام ليست سوى جانب واحد من مشهد أكبر، فنصف السكان –نحو ستة ملايين شخص– يعانون انعدام الأمن الغذائي، في حين تمول خطة الاستجابة الإنسانية الأممية بنسبة 8% فقط، ما يكشف فجوة سحيقة بين حجم الكارثة والدعم الدولي المتاح.

وحشية بلا حدود

في كل زاوية من هايتي، تترسخ انتهاكات حقوق الإنسان كأنها أداة ممنهجة لبسط النفوذ، فالاغتصاب الجماعي أصبح السلاح الأكثر انتشاراً، إذ مثّل 85% من جميع حالات العنف الجنسي الموثقة خلال الفترة الأخيرة. وفي مايو الماضي، هزّ الشارع الهاييتي خبر جريمة وحشية حينما اغتصب مسلحون امرأتين في حي سيتي سوليه بشكل جماعي، ثم قتلوهما وأحرقوا جثتيهما انتقاماً لدخولهما منطقة محظورة.

القتل خارج نطاق القانون بدوره تحول إلى قاعدة، ففي نهاية مايو ذبحت عصابة في بورت أو برنس 15 رجلاً مسناً تراوح أعمارهم بين 70 و80 عاماً، ضمن ما وصفوه بأنه "تضحية" في طقوس فودو، ثم أحرقوا جثثهم. هذه الحادثة المفجعة سلّطت الضوء على توحش لا يميز بين بريء وعاجز.

عنف متعدد الأوجه

تقرير الأمم المتحدة أوضح أن العنف في هايتي لا يرتبط فقط بالعصابات، بل يمتد إلى قوات الأمن الحكومية وجماعات الدفاع الذاتي التي نشأت رد فعل على ضعف الدولة، بين أبريل ويونيو شكّلت العمليات الأمنية 64% من مجموع الوفيات والإصابات، حيث وثّقت الأمم المتحدة 73 حالة إعدام بإجراءات موجزة، في حين تسبب استخدام طائرات مسيرة متفجرة في سقوط نحو ثلث الضحايا خلال تلك العمليات.

أما جماعات الدفاع الذاتي، المسؤولة عن 12% من القتلى والجرحى، فارتكبت مجازر صادمة بدعوى "حماية الأحياء"، ففي أواخر مايو، هاجمت إحدى هذه الجماعات بلدة بيتي ريفيير بالسواطير، وقتلت أكثر من 55 مزارعاً كانوا يحضرون مراسم دينية، ثم أحرقت جثثهم بدعوى تعاونهم مع العصابات.

الأدهى أن هذه الانتهاكات غالباً ما تمر بلا عقاب، على سبيل المثال، بين أبريل ويونيو قتل أحد المدّعين العامين في ميراغوان 27 شخصاً، زعم أنهم أعضاء عصابة، ليصل إجمالي عمليات الإعدام التي نفّذها إلى 83 منذ عام 2022، دون محاسبة تُذكر.

توظيف العنف سياسياً واجتماعياً

مع تزايد نفوذها، لا تكتفي العصابات الهايتية باستخدام العنف لإرهاب الناس، بل تحاول أيضاً اكتساب شرعية اجتماعية، ففي مدينة ميريباليه نظمت عصابتان مسلحتان حملات تنظيف الشوارع وطلاء المنازل، لكنها في الواقع خطوات لتثبيت سلطة الأمر الواقع بعد تهجير آلاف السكان الأصليين واستبدالهم بمهاجرين جدد يُجبرون على الولاء للعصابة.

بحسب تقرير مكتب الأمم المتحدة، تسعى بعض العصابات حالياً إلى إقامة "حكم محلي" عبر فرض رسوم "حماية"، وتطبيق قوانينها الخاصة، بل وحتى فض النزاعات العائلية أو التجارية، هذه الاستراتيجية تزيد من تآكل الدولة المركزية وتمنح العصابات هيمنةً عميقة تتجاوز القوة العسكرية إلى الشرعية المجتمعية.

من اغتيال مويس إلى فراغ السلطة

الأزمة الحالية لا يمكن فهمها دون العودة إلى الحدث المفصلي في يوليو 2021، حين قُتل الرئيس جوفينيل مويس في عملية غامضة لم تُكشف كامل ملابساتها حتى اليوم، وقد خلّف الاغتيال فراغاً سياسياً هائلاً، استغلّته العصابات لتوسيع نفوذها في غياب مؤسسات قادرة على الردع.

وحتى اليوم، تعاني الدولة الهايتية من ضعف أجهزتها الأمنية والقضائية تحت وطأة أزمات اقتصادية حادة، ونقص مزمن في الموارد، وتراجع كبير في ثقة المواطنين بالحكومة.

نداءات دولية تُقابلها استجابة خجولة

أمام هذا الواقع القاتم، تواصل الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية المحلية والدولية التحذير من تدهور الوضع، ودعت المنسقة الأممية في هايتي، أولريكا ريتشاردسون، الحكومة الهايتية إلى "مكافحة العصابات مع احترام صارم لحقوق الإنسان"، كما شدّد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) على الحاجة الماسة إلى زيادة التمويل الإنساني.

لكن الاستجابة الدولية، حتى الآن، لا ترقى لمستوى الكارثة. فمع تمويل خطة الاستجابة الإنسانية بنسبة 8% فقط، تظل غالبية العائلات النازحة محرومة من الغذاء، المياه النظيفة، والرعاية الطبية الأساسية.

ما وراء الأرقام: مأساة بشرية في تفاصيلها

خلف كل رقم في تقارير الأمم المتحدة وجه إنساني مكلوم.. أم فقدت أبناءها برصاصة طائشة، مسن أُحرقت جثته في طقسٍ دموي، طفل نازح لا يجد مكاناً للنوم سوى خرائب مدينة حُكم عليها بالعنف، وفي قلب الأزمة، يعيش الملايين بقلق دائم، بين خوف من عصابة تتسلل ليلاً أو جماعة دفاعٍ لا ترحم أو حتى قوات أمن قد تتحول من حامٍ إلى قاتل.

بين جدران المستشفيات التي تعجز عن استيعاب الضحايا، والمدارس التي أُغلقت، والأسواق التي التهمتها النيران، تتجلى أزمة هايتي باعتبارها إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية في نصف الكرة الغربي، فمستقبل البلاد رهين إرادة سياسية هشة، ومجتمع دولي مطالب بأن يدعم -ليس فقط خطط الأمن- بل أيضاً إعادة بناء الثقة والمؤسسات.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية