الحقوق والحريات تحت النار.. كيف تحوّلت تظاهرات نيبال إلى أكبر أزمة سياسية منذ 2008؟
الحقوق والحريات تحت النار.. كيف تحوّلت تظاهرات نيبال إلى أكبر أزمة سياسية منذ 2008؟
شهدت نيبال خلال الأسبوع الحالي واحدة من أعنف موجات الاضطرابات في تاريخها الحديث، بعدما تحولت احتجاجات بدأت ضد تقييد الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي واتهامات بالفساد إلى صدامات دموية مع قوات الأمن، وأسفرت الأحداث، بحسب الشرطة النيبالية، عن سقوط ما لا يقل عن 51 قتيلاً بينهم 21 متظاهراً وثلاثة من عناصر الشرطة، فضلًا عن مئات الجرحى الذين غصّت بهم مستشفيات العاصمة كاتماندو ومدن أخرى.
الاحتجاجات، التي بدأت بمسيرات سلمية يقودها شباب غاضبون من القيود الحكومية على فيسبوك ويوتيوب ومن تزايد نفوذ النخب السياسية، تحولت بسرعة إلى أعمال شغب طالت مقار حكومية ومنازل مسؤولين بارزين، وأضرمت النيران في مبنى البرلمان ومقر إقامة رئيس الوزراء المستقيل كاي بي شارما أولي، فيما بدا أنّ الأزمة تجاوزت حدود الاحتجاجات المعتادة لتأخذ شكل تمرّد شعبي واسع النطاق.
انهيار النظام السياسي
جاءت هذه الاضطرابات في لحظة حرجة من تاريخ نيبال السياسي، حيث استقال رئيس الوزراء أولي بعد أقل من عام على توليه المنصب، تحت ضغط تصاعد العنف وفقدان السيطرة على الشارع، ورغم إعلانه إعادة تشغيل وسائل التواصل الاجتماعي ووعده بالتحقيق في تجاوزات الشرطة، فإن هذه التنازلات لم تكفِ لاحتواء الغضب الشعبي.
في أعقاب الاستقالة، بسط الجيش سيطرته على العاصمة وفرض حظر تجول، بينما فتح رئيس الأركان الجنرال آشوك راح سيغديل قنوات اتصال مع ممثلين عن المتظاهرين لبحث تشكيل حكومة انتقالية، غير أن الانقسامات داخل صفوف المحتجين حول القيادة المستقبلية -بما في ذلك طرح اسم رئيسة المحكمة العليا السابقة سوشيلا كاركي- تعكس هشاشة المشهد وغياب توافق وطني.
مأساة السجون المفتوحة
زاد المشهد تعقيداً فرار أكثر من 13 ألف سجين من مختلف السجون النيبالية أثناء الفوضى الأمنية، وأكدت الشرطة أن نحو ألف منهم أعيد توقيفهم، بينما لا يزال أكثر من 12 ألفاً طلقاء، ويثير هذا التطور مخاوف جسيمة تتعلق بالأمن العام، إذ قد يستغل بعض الفارين حالة الاضطراب لممارسة أعمال عنف أو انخراط في أنشطة إجرامية منظمة، ما يضاعف من عبء الدولة المثقلة أصلاً بأزمة سياسية خانقة.
الجذور العميقة للأزمة
لا يمكن قراءة هذه الأحداث بمعزل عن التاريخ السياسي لنيبال خلال العقدين الماضيين، فمنذ إلغاء الحكم الملكي عام 2008 وإعلان الجمهورية، شهدت البلاد سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية المتلاحقة، وفشلت الحكومات المتعاقبة في تحقيق استقرار دائم، وظلت الصراعات بين الأحزاب والاتهامات المتبادلة بالفساد تعوق أي تقدم ملموس.
كما أن البنية الاقتصادية الهشة واعتماد شريحة واسعة من السكان على التحويلات المالية من الخارج جعلا البلاد أكثر عرضة للاحتجاجات الاجتماعية، وفق تقديرات البنك الدولي، يعيش نحو 20 في المئة من السكان تحت خط الفقر، بينما يعاني الشباب من معدلات بطالة مرتفعة، وهو ما يفسر سرعة انخراطهم في التظاهرات الأخيرة.
التداعيات الإنسانية والحقوقية
رد فعل قوات الأمن باستخدام الرصاص الحي ضد المتظاهرين الشباب أثار انتقادات واسعة من منظمات حقوقية محلية ودولية. فقد اعتبرت منظمة العفو الدولية أن استخدام القوة المفرطة "يشكل انتهاكاً صارخاً لحق المواطنين في التجمع السلمي"، مطالبة بفتح تحقيق مستقل لمحاسبة المسؤولين.
بدورها، أعربت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان عن قلقها البالغ إزاء العدد الكبير من القتلى والجرحى، ودعت السلطات إلى احترام التزاماتها بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي يكفل حرية التعبير والتجمع، وأشارت تقارير حقوقية إلى أن قطع وسائل التواصل الاجتماعي مثّل انتهاكاً إضافياً لحق النيباليين في الوصول إلى المعلومات.
المجتمع الدولي يراقب
أثارت الأحداث الأخيرة مخاوف المجتمع الدولي من انزلاق نيبال إلى حالة من عدم الاستقرار الدائم… دول الجوار، وخاصة الهند والصين، تتابع التطورات عن كثب نظراً لأهمية نيبال الاستراتيجية في جنوب آسيا. وقد دعت وزارة الخارجية الهندية إلى "ضبط النفس والحوار الوطني"، بينما شددت واشنطن وبروكسل على ضرورة حماية الحقوق الديمقراطية في البلاد.
منظمة الأمم المتحدة بدورها عرضت المساعدة في تسهيل حوار شامل بين القوى السياسية والمجتمع المدني، فيما دعا الاتحاد الأوروبي إلى إرسال بعثة تقصي حقائق لتقييم انتهاكات حقوق الإنسان المحتملة.
القانون الدولي والتزامات الدولة
بموجب التزاماتها الدولية، تتحمل نيبال مسؤولية حماية حقوق مواطنيها الأساسية حتى في أوقات الاضطرابات، فالمبادئ الأساسية للأمم المتحدة بشأن استخدام القوة والأسلحة النارية تنص بوضوح على أن استخدام القوة المميتة لا يجوز إلا كملاذ أخير، وعندما يكون هناك تهديد وشيك للحياة.
كما أن حالات فرار السجناء وما رافقها من قصور في تأمين مراكز الاحتجاز تطرح تساؤلات حول التزام الدولة بضمان سلامة السجناء وحقوقهم وفق قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء (قواعد نيلسون مانديلا).
سيناريوهات المستقبل
المشهد في نيبال يظل مفتوحاً على عدة سيناريوهات. في حال نجحت المداولات الجارية في تشكيل حكومة انتقالية تحظى بقبول الشارع والمعارضة، قد تتمكن البلاد من استعادة جزء من الاستقرار وفتح الطريق أمام انتخابات مبكرة، غير أن استمرار الانقسامات الداخلية، مع غياب قيادة موحدة للمتظاهرين وتنامي نفوذ الجيش، قد يقود إلى مسار مختلف يتسم بمزيد من عسكرة السياسة.
في جميع الأحوال، تبقى الحاجة ملحة إلى معالجة جذور الأزمة: الفساد المستشري، وضعف المؤسسات، والهوة المتزايدة بين النخب السياسية والشباب الغاضب، فبدون إصلاحات جذرية قائمة على الحقوق، ستظل نيبال عرضة لاضطرابات متكررة تقوّض طموحاتها الديمقراطية.
لطالما مثّلت نيبال حالة استثنائية في جنوب آسيا، بعد عقود من الحكم الملكي المطلق، اندلعت حركة شعبية واسعة عام 2006 أنهت نظام الملكية وأسست لجمهورية برلمانية، غير أن المرحلة الانتقالية طالت، وظلت التوترات بين القوى السياسية المختلفة، بما فيها الماويون السابقون، تعرقل بناء مؤسسات مستقرة.
إقرار الدستور الجديد عام 2015 كان يُفترض أن يشكل نقطة تحول، لكنه أثار احتجاجات واسعة من جماعات عرقية شعرت بالتهميش، ما أدى إلى مزيد من الانقسامات، ومع ذلك، حافظت نيبال على قدر من الاستقرار النسبي حتى موجة الغضب الأخيرة التي تعدّ الأكبر منذ إعلان الجمهورية.